علاج الفتور

0 679

تزداد الطاعات في مواسم الخير كشهر رمضان لأسباب كثير منها ما يستشعره المسلم من أجواء إيمانية في هذا الشهر المبارك، نتيجة ما ميزه الله به من تصفيد الشياطين، وإقبال النفوس على الطاعة، وفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، ووجود البيئة المعينة فمعظم الناس حوله صائمون وكثير منهم يقومون الليل ويقرأون القرآن ويقبلون على أنواع الطاعات والقربات، كل هذه الأجواء تساعد المسلم على التقرب إلى ربه، والبعد عن المعاصي والسيئات، فإذا انتهى رمضان، واختلفت تلك الأجواء ربما أصابه شيء من الفتور والكسل عن بعض الطاعات كقيام الليل أو قراءة القرآن...
وحصول الفتور والتراخي بعد الجد والنشاط أمر وارد لأي عامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك". (رواه أحمد)، وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء"، أي: جميع الأشياء والأمور؛ كالعمل والعبادة والاجتهاد، والحب والكره، وغير ذلك، له، "شرة"، أي: نشاطا وشدة وحرصا ورغبة في أوله، "ولكل شرة فترة"، أي: ضعف وخمول وسكون في آخره، فالعابد يبالغ في العبادة أولا، ثم تسكن شرته وتفتر عزيمته؛ لذا أمر بهذا: "فمن كان فترته"، أي: فمن كانت فترة خموله وضعفه، "إلى سنتي فقد اهتدى"، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الاقتصاد والتوسط، مع المداومة والإخلاص لله، وعدم الرياء والسمعة، "ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك"؛ لأن من سلك غير هديه صلى الله عليه وسلم فهو من الهالكين.

قال ابن القيم رحمه الله: "تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيرا مما كان". وقال علي رضي الله عنه: "إن النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات".

فالمحذور أن يخرجه الفتور إلى التفريط في الفرائض والواجبات وانتهاك المحرمات والمنهيات، وهنا يكون العبد على خطر عظيم، ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم: "وأعوذ بك من الحور بعد الكور". أي: من النقصان بعد الزيادة، أو من فساد الأمور بعد صلاحها. وهؤلاء أيضا يقال لهم: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}(النحل:92).
لذا كان أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -كما في البخاري- عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (كان عمله ديمة)، أي: دائما مستمرا، كالمطر الدائم الذي لا ينقطع.
وينبغي أن يعلم المسلم أن العبادة كثيرا ما تأتي على خلاف هوى العبد ورغباته، ما يتطلب قدرا من المجاهدة والمشقة في بداية الأمر، حتى تألف النفس الطاعة، ثم تستقيم على أمر الله، قال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}(العنكبوت:69). وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".(رواه مسلم).

ومن أهم أسباب علاج الفتور:
1- تفقد الإيمان ومراقبة القلب
فينبغي على المسلم أن يتفقد إيمانه وأن يراقب قلبه لأن الإيمان يزيد وينقص، والقلب يتقلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا ".وقال:" إنما سمي القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة ، تعلقت في أصل شجرة ، يقلبها الريح ظهرا لبطن ". ولأجل ذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : "يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالت : فقلت : يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ قال : "يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ، ومن شاء أزاغ" . فتلا معاذ {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}.
فاللهم {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}(آل عمران:8).
وكان عمريقول لأصحابه : (هلموا نزدد إيمانا ، فيذكرون الله ).
وكان ابن مسعود يقول في دعائه : (اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها).
وكان معاذ بن جبل يقول للرجل : ( اجلس بنا نؤمن ساعة ).

2- استحضار ما أعده الله تعالى للمتقين في الجنة
العبد مفطور على طلب الجائزة على المعروف والتعلق بالشكر، فكلما كان ذاكرا لثواب العمل مستحضرا ما يلقاه من جزاء حسن اندفع إلى الطاعات، فإذا غفل عن هذا أو نسي ، فتر عن العبادة ، وتكاسل عنها؛ وقد هيأ الله ذلك لعباده إلى حد لا تتصوره أذهانهم ، ولا يخطر على بالهم: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. نزلا من غفور رحيم}(فصلت:30-32).وقال تعالى: { هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب(49)جنات عدن مفتحة لهم الأبواب(50)متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب(51)وعندهم قاصرات الطرف أتراب(52)هذا ما توعدون ليوم الحساب(53)إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} (سورة ص).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فاقرءوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }".(رواه البخاري).

آخر من يدخل الجنة
إذا كان آخر من يدخل الجنة يقال له:"أيرضيك أن أعطيك الدنيا و مثلها معها ؟"، فكيف بمن هو فوق ذلك!!.
إذا أردت أن تتفكر في هذا فاقرأ واستمع وعش في ظلال هذا الحديث: "سأل موسى ربه، ما أدنى أهل الجنة منزلة، قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}".(السجدة: 17). فاللهم ارزقنا الجنة بغير حساب ولا عذاب.

3- الصحبة الطيبة
من أهم الأسباب التي يعالج بها الفتور وتدفع بها الغفلة مصاحبة الصالحين الأخيار، وقد دل على هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة". وقوله: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
ومن ثمرات الصحبة الصالحة: الإعانة على الطاعات، والبعد عن المعاصي والذنوب؛ قال تعالى: { والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (سورة العصر).

وقال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}.(التوبة:71).
فمن جالس الصالحين تشمله بركة مجالستهم، ويعمه الخير الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغا مبلغهم؛ كما دل على ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم"، وفي آخر الحديث: "فيقول الله: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".

يقول عمر: "لولا ثلاث ما أحببت العيش في هذه الحياة الدنيا: ظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات من الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام، كما ينتقى أطايب الثمر".
بخلاف أصحاب السوء الذين يتبرأ بعضهم من بعض: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}الزخرف:67).
وبين الله عز وجل حسرة هؤلاء الذين صاحبوا الأشرار وندمهم على ذلك: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا(27)يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا(28)لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}(الفرقان).
فيا أيها الحبيب جاهد النفس وانفض غبار الكسل ولا تركن إلى الفتور والراحة واعلم أن الله تعالى لم يجعل لعمل المؤمن منتهى دون الموت وضع أمام عينيك قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(الحجر:99).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة