فوائد دعوية من سورة المسد

0 918

اختار الله نبيه محمدا بن عبدالله ليكون خاتمة عقد المرسلين، فبعث إليه جبريل في غار حراء ليعلمه أنه نبي الأميين، وأنه رسول رب العالمين إلى هؤلاء الخلق أجمعين.. وافتتح الوحي ب {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1).
ثم أتاه ثانية ليستحثه للقيام بالمهمة، والابتداء بالدعوة، والقيام بواجب النذارة فقال له: {يأيها المدثر . قم فأنذر}(المدثر:1، 2).

وأطاع الرسول أمر مرسله، واستجابة لمطلوب الرب، خرج إلى البطحاء، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [خرج "رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه!! فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.. فقام أبو لهب ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب وتب}.
ومعنى {تبت يدا أبي لهب} أي خسرت وخابت، وضل عمله وسعيه. {وتب} أي قد حصل وكان، وتحققت خسارته وهلاكه.

وأبو لهب هذا ـ كما هو معلوم ـ هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه عبد العزى بن عبد المطلب، لقب بأبي لهب لوضاءة كانت في وجهه، وقد كان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغض له، والتنقص له ولدينه.
فعن ربيعة بن عباد ـ وهو رجل من بني الديل، كان جاهليا فأسلم ـ قال: "إني لمع أبي رجل شاب أنظر فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية (يعني قبل أن يسلم ربيعة، أو يقصد قبل ظهور دعوة الإسلام ) في سوق ذي المجاز، يتبع القبائل، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: (يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به)، ويقول: [يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا] والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول ذو غديرتين، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال هذا الرجل: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. ويقول: إنه صابئ كاذب.. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب).

كان أبو لهب كثير الصلف والكبر والحماقة، حتى إنه بعد نزول سورة المسد ووعيد الله له بالنار كان يقول: "إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى: {ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب} أي ذات شرر ولهب وإحراق شديد.
حمالة الحطب
كانت امرأة أبي لهب، أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، سيدة من سادات نساء قريش (أخت أبي سفيان بن حرب)، عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، وكانت شديدة الأذى لرسول الله كزوجها، كشن وافق طبقه، فكانت تحمل الشوك والحطب والأذى فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فوصفها الله بـ {حمالة الحطب}، وقيل كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وقال سعيد بن المسيب: قيل إنها كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلا في جيدها من مسد النار.

فلما شاركت زوجها في عداوة النبي وحرب دينه، وشدة الأذى له، أشركها الله معه في العذاب فقال تعالى: {وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد} يعني حبل أو طوق من نار تعذب به في جهنم.

عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت: {تبت يدا أبي لهب} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر ـ وهو الحجر يملأ الكف ـ وهي تقول:
مذمما أبينا    .. ..  ودينه قلينا   .. ..  وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني)، وقرأ قرآنا اعتصم به، كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا أبا بكر! إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها""أخرجه ابن أبي حاتم"".

فوائد دعوية
إن موقف أبي لهب من ابن أخيه صلى الله عليه وسلم ودعوته، هو موقف شاركه فيه بعض قرابات رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في بداية الدعوة، وقد أسلم البعض في النهاية ومات البعض على الكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي هذا الموقف فوائد ينبغي أن ينتبه إليها الدعاة.. منها:
أولا: أن أقارب الداعية ربما كانوا أكثر الناس عداوة له، ومحاربة لدعوته، وبذلا للأذى، وسعيا في الرد والتكذيب لما يدعو إليه وينادي به؛ وربما ناله منهم ما لم يبلغه من أذى غيرهم، فلا ينبغي للدعاة أن يحزنهم ذلك، وإن كان مما يؤثر في القلوب والنفوس كما قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .. .. على النفس من وقع الحسام المهند

ثانيا: أن العقيدة أعظم في النفوس من القرابة والنسب، ورابطة الأولى أعلى وأرفع، وهذ ما يجعل الإنسان يحاد كل الناس لينصر معتقده.. حتى لو كانوا أقرب الناس إليه.
ودليل ما نقول، وهو أيضا دليل على الفائدة الأولى، موقف آزر أبي إبراهيم من دعوة ولده، وموقف ابن نوح من دعوة والده.

فليعلم ذلك الدعاة وليوطنوا أنفسهم عليه، فلا يقدموا على رابطة العقيدة وأخوة الإيمان غيرها، وليغرسوا ذلك في قلوب أتباعهم {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ۚ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ۖ ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ۚ رضي الله عنهم ورضوا عنه ۚ أولئك حزب الله ۚ ألا إن حزب الله هم المفلحون}(المجادلة:22).

ثالثا: رعاية الله لأنبيائه وأوليائه؛ كما في موقف أم جميل وعدم رؤيتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم وجوده أمامها.. وهذا نوع نصرة ودفع أذى الكفار عن الدعاة وأولياء الله. وحتى صرف الأذى عن اسم النبي صلوات الله عليه وسلامه.. فكانت تهجو مذمما لا محمدا.

رابعا: صدق القرآن، وصحة ما جاء به النبي العدنان، فقد أخبر الله في هذه السورة أن أبا لهب وزوجته في النار، ولازم ذلك أن يموتا على الكفر. وقد عاش أبو لهب بعد نزول هذه السورة قرابة عشر سنين، فما خطر بباله أن يسلم ولو ظاهرا هو أو زوجته، وهذا علامة قدرة الله، ومعجزة تدل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر ابن كثير هذه الفائدة في تفسيره فقال:
قال العلماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: {سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد} فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما، لا باطنا ولا ظاهرا، لا سرا ولا علنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة، على النبوة الظاهرة.

فصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة