الرجولةُ في الإسلامِ

0 681

لعل من أهم الفروق التي تميز المسلمين في أول أمرهم وفجر حياتهم عن المسلمين اليوم، "خلق الرجولة"، فقد غني العصر الأول بمن كانوا هامة الشرف، وغرة المجد، وعنوان الرجولة.
تتجلى هذه الرجولة في "محمد" صلى الله عليه وسلم .. فحياته كلها سلسلة من مظاهر الرجولة الحقة، والبطولة الفذة؛ إيمان لا تزعزعه الشدائد، وصبر على المكاره، وعمل دائب في نصرة الحق، وهيام بمعالي الأمور، وترفع عن سفاسفها؛ حتى إذا قبضه الله إليه لم يترك ثروة كما يفعل ذو السلطان، ولم يخلف أعراضا زائلة كما يخلف الملوك والأمراء، إنما خلف مبادىء خالدة على الدهر، كما خلف رجالا يرعونها وينشرونها، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم من أجلها.

وتاريخ الصحابة ومن بعدهم مملوء بأمثلة الرجولة.
فأقوى ميزات "عمر" أنه كان "رجلا" لا يراعي في الحق كبيرا، ولا يبالي عظيما أو أميرا. يقول في إحدى خطبه: "أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه".
وينطق بالجمل في وصف الرجولة فتجري مجرى الأمثال، كأن يقول: "يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: (لا) بملء فيه".
ويضع البرامج لتعليم الرجولة فيقول: "علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما يجمل من الشعر".
ويضع الخطط لتمرين الولاة على الرجولة، فيكتب إليهم "اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب".
من أجل هذا كله كان هذا العصر مظهرا للرجولة في جميع نواحي الحياة، تقرأ تاريخ المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة، وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاما وقادة لخريجي العلم ووليدي السياسة — إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم، هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون أرقى الأمم مدنية وأعظمها حضارة؛ ثم هم لا يفتحون فتحا حربيا يعتمد على القوة البدنية وكفى، إنما يفتحون فتحا مدنيا إداريا منظما، يعلمون به دارسي العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون الإدارة، ويلقون بعملهم درسا على العالم، أن قوة الخلق فوق مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس برجولتها.

هل سمعت عطفا على الرعية، وأخذ الولاة بالحزم كالذي روى  عنه .أو هل سمعت قولا في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر: "إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز الناس، فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس"؟
أو هل رأيت حزما في الإدارة كالذي فعل في مسح سواد العراق وترتيب الخراج، وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.
حقا لقد كان عمر في كل ذلك رجلا، ولئن كان هناك رجال قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالا بجانبهم، فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلا يجعل بجانبه رجالا؛ فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالا نفخ فيهم عمر من روحه كما نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح لنفسه في رجولته.

ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب، وأنزلوهم منزل العز والمنعة تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل والكتب.
ثم توالت الأحداث، وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم، وتفت في رجولتهم، حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم يبذلون المال للشرف، ولم ينظروا إلا إلى أنفسهم وذوي قرابتهم، وكان آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعا وأحزابا يذوق بعضهم بأس بعض، فكانوا حربا على أنفسهم بعد أن كانوا جميعا حربا على عدوهم ورضوا في الفخر أن يقولوا: "كان آباؤنا" مع أن شاعرهم يقول:
إذا أنت لم تحم القديم بحادث من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
وناثرهم يقول: "لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول".
ورأينا خير ما في الأمم حاضرها وخير ما فينا ماضينا.
•••
أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف، من اعتداد بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه من نصب، وحماية لها في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم لنفسه ولها.
وهي صفة يمكن تحقيقها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة. 
فالوزير الرجل من عد كرسيه تكليفا لا تشريفا، ورآه وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظا على حقوق أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب؛ يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور مواضعها ويرفض في إباء أن يكون يوما ما عونا للأجنبي عليها، فإذا أريد على ذلك قال: "لا" بملء فيه، فكانت لا منه خيرا من ألف نعم وكانت لا منه وساما تدل على رجولته وكانت لا منه خير درس للناشئين يتعلمون منه الرجولة ؛ يقتل المسائل بحثا ودرسا، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ، ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد، لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.

والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه، له صبر على الشك، وإغرام بالتفكير، وبطء في الجزم، وصبر على الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة، صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم.

والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها حتى بلغ ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته كوطنية السياسي في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن غيرها من شئون الدولة؛ فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحا كثيرا مع الخداع، ويقنع بربح معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلا.
وفي الرجولة متسع للجميع؛ فالزارع في حقله قد يكون رجلا، والتلميذ في مدرسته قد يكون رجلا، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلا، وليس يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة.
•••
من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم، يبدأ يرعى الطفل في بيته، فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر منه كما يحافظ على الصك يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلا في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه، ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.
ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه، وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه، وكيف يعطف على الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.
ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته، وببعثه على أن يفكر في غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقة ؛ حتى إذا ما أتم دراسته كان قاضيا رجلا، أو معلما رجلا، أو سياسيا رجلا، وعلى الجملة إنسانا رجلا.
ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد والأغاني التي تملأ النفس أملا. ويراقب في شدة وحزم دور السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويثلم الشرف، ولا يسمح بما يحيي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ على أيدي الساسة والحكام ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.
من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة، ويسلمني برنامجا للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير؟
ولي كبد مقروحة من يبيعني     بها كبدا ليست بذات قروح؟

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة