- اسم الكاتب:فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي
- التصنيف:تاريخ و حضارة
عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها. وهي عجائب حقا، ولكنها هياكل شيدت من حجارة قطعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان. تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية... إنها كتب لو جمعت لبني منها هرم صغير أو لشيد برج هائل.
فهل يقاس أثر لا روح فيه- وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتحرك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟.
هل عرفتم (القاموس المحيط)؟ إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟ من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخا؟ فكيف بمن ألفه تأليفا؟! و(لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟ و(تاج العروس شرح القاموس)؟ و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟ و(نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى)، و(تفسير الطبري)، و(فتح الباري)، و(المبسوط)، و(شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و(معجم البلدان)... وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟ إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلا عن كتابتها كتابة.
فتصوروا كيف ألفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخا؟ حتى كان في مكتبة العزيز بن المعز، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تدعى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين). وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغا إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعا، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع علما جاء به كاملا، هو علم العروض. استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان.
وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها - كما يقول المقريزي في (خططه)- نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عرفت فيه المطابع ولا الطابعات.
المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب:
ذهب جلها ولم يبق منها إلا قلها. وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل، وهو – على ذلك – شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول – كما نقلوا – أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما.
ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجودا، آتيكم عليها بأمثلة.
فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعري عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرر (القبلة) التي حلت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى) رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا (التي ضمت بعد إلى دار الكتب)، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: الزيات، وطه حسين، والزناتي.
وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات.
وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله ... فوجدت كتابا عظيما هو ركيزة من ركائز علم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعده خير ما ألف في هذا الموضوع. وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولا أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد، وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات، فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضا في إسطنبول. وهذا الكتاب إذا طبع كان أصلا من الأصول، وصحح عليه القاموس ولسان العرب. وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتماما ولا تلقيت منه جوابا!.
وبيعت مرة تركة عالم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده- وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي. وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن رأوا بينها كتابا فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه، عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، ميزتها أن فيها صورا ملونة مذهبة كأنما صورت الآن، لها قيمة فنية لا تقدر، فباعوه بمئة ليرة (يوم كانت لليرة منزلتها)، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك. يتبع....