مقدمة في مقاصد السنة النبوية 1_2

0 536

 جاءت السنة النبوية في مجمل نصوصها مفصلة ومبينة للقرآن الكريم، وبالتالي فإن البحث في مقاصد السنة النبوية ليس بمنأى عن مقاصد الشريعة، بل هي مؤكدة ومتممة، ومؤسسة لبعض المقاصد الجزئية التي تولت إيضاحها بشكل تفصيلي جلي- كما يقول الشاطبي- والمقاصد كما أنها تأصلت في الكتاب فقد تفصلت في السنة.

تعريف المقاصد:
يعرف الشيخ ابن عاشور المقاصد العامة للشريعة بقوله: "مقاصد الشريعة العامة هي: المعاني، والحكم الملحوظة للشارع، في جميع أحوال التشريع أو معظمها، فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها". أ.هـ من كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية.
مثال المقاصد العامة كما ذكرها ابن عاشور في كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" أيضا: حفظ النظام، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال.
 
أقسام المقاصد:
للمقاصد تقسيمات كثيرة، بحسب الاعتبارات، والذي يعنينا هنا هو التقسيم الأكثر تداولا، وهو تقسيمها إلى ثلاثة مستويات باعتبار الشمول:
1- المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها كما في الأمثلة المتقدمة.
2- المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة، من أبواب التشريع، كمقاصد الشارع في أحكام العائلة، ومقاصد الشارع في التصرفات المالية، وهكذا.
3- المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي، من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة, أو إباحة أو شرط أو سبب، ويسميها البعض بالأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها، مثل: كون عقد الرهن مقصوده التوثق، وعقد النكاح مقصوده إقامة وتثبيت المؤسسة العائلية، ومشروعية الطلاق مقصودها وضع حد للضرر المستمر، وهكذا.
وإذا تأملنا نصوص السنة النبوية الشريفة وجدنا أن هذه المقاصد بمستوياتها العامة، والخاصة، والجزئية، متوافرة فيها نصا، أو ظاهرا، أو استقراء، فالترتيب الموضوعي للسنة، بحسب الموضوع في كتب الجوامع، كأبواب العبادات، والمعاملات، والأنكحة، والأقضية، والأطعمة، واللباس، والجهاد، يبرز فيها الوحدة الموضوعية، ويمكن الناظر من الوصول إلى المقاصد العامة التي تأتلف حولها كل نصوص السنة، ويمكن من الوصول إلى المقاصد الخاصة بكل باب، أو أبواب متجانسة، إضافة إلى الوصول إلى المقاصد الجزئية التي يتضمنها كل نص على حدة، من خلال العلل والحكم والأسرار، وبهذا النظر تؤخذ السنة بمجموع رواياتها ومقاصدها دليلا واحدا، مترابطة الأبواب والنصوص، وهي مع مقاصد الكتاب مبينة ومفصلة، وهما معا مرجع المقاصد الشرعية، ومصدرها.

قال ابن القيم - رحمه الله في كتاب مفتاح دار السعادة: (القرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة). أ.هـ

يقول الشاطبي في الموافقات: (وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام، وهي: الضروريات، ويلحق بها مكملاتها، والحاجيات، ويضاف إليها مكملاتها، والتحسينيات، ويليها مكملاتها، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد، وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور؛ فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها؛ فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام). أ.هـ.
 
فالسنة مصدر لإنشاء المقاصد، ومنها ومن القرآن تأخذ اعتبارها ومشروعيتها، ثم إن هذه المقاصد إذا اعتبرت صارت منهجا تفهم بها النصوص النبوية، ومن خلالها يتم توجيه معاني الروايات، فالعلاقة بينهما تكاملية، كالتكامل بين اللفظ والمعنى.

الاستقراء طريق الكشف عن مقاصد السنة:
من نافلة القول أن نبحث في أدلة تثبت أن للسنة مقاصد، وغايات، وحكم، ولكن الأهم من ذلك أن نشير إلى أن أهم الأدوات المعرفية التي نتمكن من خلالها الوصول إلى مقاصد السنة النبوية هو الاستقراء، وهو كما عرفه الغزالي بأنه: " تصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى اذا وجدت حكما في تلك الجزئيات، حكم على ذلك الكلي به" أ.هـ من كتابه معيار العلم في فن المنطق.
 
والاستقراء يكون دليلا كاشفا عن مقاصد السنة النبوية من جهة أنه: تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي، وذلك من خلال تتبع النصوص النبوية المعللة، وفي الغالب تكون العلل المتجانسة متضمنة لحكمة ملحوظة، وهي المقصد الشرعي، فيحصل لنا بمجموع تلك العلل المتضمنة للحكمة، العلم بالمقصد الشرعي.
 
مثال ذلك في المقاصد العامة: استقراء العمومات المتكررة، المؤكدة على التيسير، وعدم التعسير، والرفق، والتوسعة، ورفع الحرج، وهي من الكثرة في السنة بحيث يمكننا القطع بأن التيسير - بمفهومه المنضبط - مقصد شرعي، بل وأصل عظيم في الشريعة، وإهماله موجب لحرج عظيم، وإصر وكلفة شديدة.  
 
ومثال ذلك في المقاصد الخاصة: من خلال استقراء أحاديث البيوع المنهي عنها، سنجد عللا متجانسة، مشتملة على حكمة ضابطة، توصلنا إلى مقصد شرعي، هو تحريم الغرر الفاحش، فنقطع من خلال الروايات الوافرة في النهي عنه، أن المنع منه مقصد للشارع، وأنه ملحوظ في تلك الروايات، وهكذا في بقية الأبواب.
 
قال الشاطبي في استدلاله على مراتب المصالح: "وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع، ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة". أ.هـ من كتاب الموافقات.
 
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيرا إلا ودل الأمة عليه، ولا شرا إلا وحذر الأمة منه، كما قال ربنا سبحانه: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128].
فمدلول الخير المنسجم مع المصالح، ومدلول الشر المتسق مع المفاسد، يعني أن السنة جاءت مشتملة على المصالح المقصودة، والمفاسد المدفوعة، فتكون النصوص بهذا الاعتبار كافية في الاستجابة لكل مستجد وحادث، إذ إن من أبراز وظائف العلل والمقاصد الإلحاق والقياس بنوعيه: القياس الأصولي، والقياس المصلحي.
 
فالحكم بالعلة وبمقتضاها جزء من النص، وإن كان بواسطة أدوات عقلية اجتهادية، كما قال الغزالي في كتاب المستصفى: "فلله تعالى في الزاني حكمان أحدهما: وجوب الحد عليه، والثاني: نصب الزنا سببا للوجوب في حقه؛ لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه، بخلاف العلل العقلية، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا، فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول: نصب الزنا علة للرجم، والسرقة علة للقطع لكذا وكذا، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا، والنباش في معنى السارق".
 
وإذا كان الأصوليون قد أجازوا القياس والإلحاق بالعلة الثابتة بنص خاص، أو استنباط منضبط، فإن القياس على المقاصد من باب أولى وقد ثبتت بنصوص غير منحصرة، وعمومات متكررة، كمقصد العدل، والسماحة، وحرمة كل من الغش، والظلم، والخيانة، فهذه وغيرها أجناس العلل.
وروايات السنة الشريفة وافرة في خدمة هذه المثل العليا، والكليات الكبرى، وفهم تلك الروايات في ضوء هذه المقاصد هو الضمان الحقيقي لصناعة العقلية الإسلامية المتكاملة، وأداء الدور الريادي والحضاري في الحياة العامة، بحيث تتحول تلك الروايات إلى صورة واحدة مكتملة، ومنظومة قيمية حاكمة لا محكومة، بعيدا عن الاجتزاء الحرفي، والفهم القاصر على الألفاظ، والانشغال بتفاصيل الصنعة الحديثية والفقهية الجزئية، عن إدراك المقاصد الكبرى التي جاءت السنة للتأكيد عليها بشكل دائم ومستمر.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة