مقدمة في مقاصد السنة النبوية 2_2

0 302

من المقدمات المهمة في مقاصد السنة النبوية التي يتعرض لها علماء المقاصد، هو النظر في المقامات والأحوال النبوية العلية، التي صدرت عنها أقواله وتصرفاته السنية، ومعنى ذلك -كما بينه ابن عاشورأن للرسول عليه الصلاة والسلام صفات كثيرة، كالإمامة، والقضاء، والفتوى، وكلها صالحة لأن تكون مصادر أقوال وأفعال منه، فالناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تعيين الصفة التي عنها صدر منه قول أو فعل، وسيأتي بيان هذه المقامات والصفات.

جذور المسألة في كلام العلماء قديما وحديثا:

وأول من أسس لهذا التقسيم هو الإمام أبو محمد بن قتيبة، في كتابه تأويل مختلف الحديث، وهو من علماء القرن الثالث الهجري، ثم كان البيان الأوضح للعلامة شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، في كتابه: "أنوار البروق في أنواء الفروق"، فإنه جعل الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء، وقاعدة تصرفه بالفتوى - وهي التبليغ -، وقاعدة تصرفه بالإمامة، ثم تكلم بمثل ذلك ابن القيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد"، ثم من الأصوليين الإسنوي في كتابه "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول"، وفي القرن الثالث عشر  ظهر العلامة شاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، وفصل القول في أنواع الحديث - عند بيانه أقسام علوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في كتابه "حجة الله البالغة"، وأما المعاصرون فقد كثر تناولهم لهذه القضية، تأكيدا على ما أسسه السابقون، وإن كان بعضهم قد أساء فهمها، ومن ثم أساء استعمال هذه القاعدة، فجعلوا السنة عضين، يقتسمون نصوصها ورواياتها اتكاء على تأصيلات السابقين.

والأصل في التصرف النبوي أنه للتشريع والائتساء والاقتداء، إلا ما استثني من التصرفات التي صدرت بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، كالأكل، والشرب، والنوم، والضحك، قال ابن عاشوروقد تقرر في أصول الفقه أن ما كان جبليا من أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون موضوعا لمطالبة الأمة بفعل مثله، بل لكل أحد أن يسلك ما يليق بحاله، وهذا كصفات الطعام واللباس والاضطجاع والمشي والركوب ونحو ذلك. أ.ه

ويقول: واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول} (آل عمران: 144)، فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرا مصدر التشريع، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك. أ.هـ

آثار التفريق بين المقامات والأحوال النبوية:

والبحث في المقامات والأحوال النبوية لا يعني سلب صبغة التشريع عن تلك التصرفات الصادرة منه في تلك الأحوال، بل مقصوده الأعظم هو بيان مواضع الاندراج من الشريعة، ومن يتعلق بهم من فئات الناس بحسب أحوالهم المختلفة، بخلاف ما ذهب إليه بعض المعاصرين من اجتزاء أنواع من التصرفات النبوية، كالتصرفات السياسية، والعسكرية، وما يتعلق بالتوجيهات الطبية النبوية، وجعلها من قبيل التجارب البشرية، التي لا تحمل صفة الإلزام، فأفرغوها من المحتوى التشريعي، وجردوها عن رتبة التبليغ بحجج لا تقاوم الأصل.

قال الإمام القرافي: في كتاب الفروق في الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة: "اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو - صلى الله عليه وسلم -إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة، غير أن غالب تصرفه - صلى الله عليه وسلمبالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى".

وبعد ان ذكر الإمام القرافي التفريق بين المقامات النبوية، التي تصدر عنها تصرفاته الشريفة، انتقل إلى بيان أثر هذا التقسيم، وثمرته من حيث العمل والتنزيل، فقال: "ثم تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه - عليه السلام - بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به - عليه السلام -، ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء يقتضي ذلك، وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث".

 وقد أوصلها ابن عاشور _في كتاب المقاصد_ إلى اثني عشر مقاما أو حالا، هي: التشريع، الفتوى، القضاء، الإمارة، الهدي، الصلح، النصيحة، الإشارة على المستشير، تكميل النفوس، تعليم الحقائق العالية، الـتأديب، التجرد عن الإرشاد، وذكر لكل واحد منها أمثلة قد يكون اندراج بعضها موضع بحث ونظر.

أمثلة تطبيقية:

نورد هنا مثالين يتضح بهما أثر القاعدة السابقة:

الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" رواه البخاري، فقد اختلف العلماء في هذا القول الصادر منه عليه الصلاة والسلام، هل هو تصرف بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يحيي أرضا ولو لم يأذن له الإمام؟ أو هو تصرف بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام؟ وهو مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب مالك والشافعي، وليس المقام لبسط الخلاف والحجج في ذات المسألة، فإن قضية إحياء الأرض اليوم خاضعة لأنظمة وقوانين في كل بلد بحسبه، بل الغرض هو بيان أثر مسألة المقامات النبوية في فقه الحديث.

الثاني: حديث عائشة _رضي الله عنها_، قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمخذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك رواه البخاري ومسلم.

وبناء على القاعدة السابقة فقد اختلف العلماء هل هذا تصرف بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به؟ أو هو تصرف بالقضاء، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض؟، خلاف مشهور بين الفقهاء، وهو مبسوط في شروح الحديث، وكتب الأصول.

طرق تمييز المقامات النبوية:

أولا: بالتنصيص على المقام الذي صدر عنه التصرف النبوي، كما في الصحيحين من حديث بريرة لما أعتقها أهلها كانت زوجة لمغيث العبد، فملكت أمر نفسها بالعتق، فطلقت نفسها، وكان مغيث شديد المحبة لها، وكانت شديدة الكراهية له. فكلم مغيث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فكلمها رسول الله في أن تراجعه. فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟. قال: "لا، لكني أشفع". فأبت أن تراجعه، ولم يثربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا المسلمون، والشاهد في قوله: (لكني أشفع)، فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالمقام الذي صدر عنه الأمر لبريرة بمراجعة مغيث.

ثانيا: فهم الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدون، فقد كانوا يفهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يصدر عنه بعض التصرف بصفة التدبير البشري، كما في البخاري عن عائشة أنها قالت: "ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه إلى المدينة"، تعني: لأنه مكان متسع يجتمع فيه الناس، وبقولها قال ابن عباس ومالك بن أنس.

وكذلك حديث الاضطجاع على الشق الأيمن بعد سنة الفجر، كما في البخاري ومسلم عن عائشة_رضي الله عنها_ قالت: كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن، وللعلماء مذاهب في حكم هذه الضجعة، فصلها ابن القيم في زاد المعاد، والشاهد أن عمر وغيره من الصحابة، وهو رأي جماعة من العلماء، كانوا يرون أن فعل النبي _صلى الله عليه وسلم_ لها للاستراحة، فلم يجيزوا فعلها استنانا، وهذا يدل على أصل تصنيف التصرف النبوي بحسب الصفة والحال عند الصحابة، ومن بعدهم.

ختاما: حذر العلماء من التعجل في الحكم على حديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بأنه منصرف إلى غير التشريع بالظن والتخمين، وأن الأصل الثابت في التصرفات النبوية هو التشريع، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بما يقوى على الاستثناء منه، وإلا تعرضت النصوص النبوية للظنون والأوهام باسم المقاصد واختلاف المقامات والأحوال، وليعلم أن النظر في ذلك لا يتمكن منه إلا العلماء الراسخون في العلم أصوله وفروعه، ويعرفون عوائد التشريع وتصاريف الشريعة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة