المـطـالـعـة (1)

0 436
  • اسم الكاتب:كتاب : فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي

  • التصنيف:تاريخ و حضارة

لقد جربت اللذائذ كلها، فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب، وإذا كان للناس ميول، وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها.
وهذا الكلام .... للطالب، وللمدرس، وللطبيب، وللمرأة في بيتها، وللمسافر، وللمقيم.

الطالب إذا اقتصر على دروس المدرسة ولم يطالع لا يصير عالما. وما دروس المدرسة؟ إن مثال ما يقرؤه الطالب في الثانوية مثال من يريد أن يعمل وليمة، فهو يدخل المطعم ليختار طعام الوليمة، فيذوق لقمة من هذا، ولقمة من ذاك، فإذا أعجبه لون اشترى منه، والطالب يذوق في الثانوية لقمة من لون التاريخ، ولقمة من الحساب، ولقمة من النحو، ولقمة من الكيمياء... ليرى ما ترغب فيه نفسه ويميل إليه طبعه فيقبل عليه، فإذا اكتفى بما درسه في المدرسة لم يحصل شيئا؛ لأن اللقمة لا تشبع الجائع!

فليتعود الطلاب المطالعة، وليبدؤوا بالكتب الخفيفة السهلة.
لي أخ أحببت أن أعوده على المطالعة وهو صغير، فأتيته بـ(قصة عنترة) في ثمان مجلدات. و(قصة عنترة) مكتوبة بأسلوب فصيح، وفيها فروسية وفيها أدب، وفيها كثير من أخبار العرب، وإن كان مخلوطا فيها الحق بالباطل، والواقع بالخيال، وليست كقصص هذه الأيام فقرأها كلها، المجلدات الثمانية، وحفظ أكثر ما فيها. ثم أتيته بـ(فتوح الشام) المنسوب للواقدي، وهو كتاب مزيج من التاريخ ومن القصة، فقرأه، ثم تدرج في المطالعة حتى صار يقرأ الكتب الكبار.

فليبدأ الطلاب ولو بالقصص، على أن يختاروا منها القصص البليغة الأسلوب، العالية الهدف، العميقة المغزى. ولقد ترجمت أكثر القصص الأدبية العالمية، كالتي ترجمها المنفلوطي أو ترجمت له فكتبها بأسلوبه أو ترجمها الزيات، وغيرها من كتب التراجم التي هي أجمل من القصص. ...
ثم ينتقلون من القصص إلى كتب الأدب، فيقرؤون- مثلا- (البخلاء) للجاحظ، و(كليلة ودمنة) لابن المقفع. ثم يقرؤون كتبا أنفع، ككتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكتاب الحارث المحاسبي (الرعاية لحقوق الله)، ثم يقرؤون كتب العلم.

وخير ما يقرؤون القرآن، بشرط أن يفهموا ما يقرؤون، وقراءة سورة قصيرة مع الفهم والتدبر خير من ختمة بلا فهم ولا تدبر. القرآن أساس البلاغة في القول، فضلا عن كونه أساس الهداية للقلب، وكونه دستور الحياتين وسبب السعادتين .
والذين تسمعون عنهم من بلغاء النصارى في هذا القرن ما بلغوا هذه المنزلة إلا بدراسة القرآن، كالشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم اليازجي، وفارس الخوري، هذا وهم نصارى، ونحن أولى بهذا الكتاب.

فليتعود الطلاب المطالعة بأن يقرؤوا كل يوم خمس صفحات لا يتركونها أبدا. أنا من نصف قرن أقرأ ما لا يقل معدله اليومي عن عشرين صفحة، بل لا يكاد يقل عن خمسين، فاحسبوا كم يبلغ مجموع عشرين صفحة في اليوم في خمسين سنة؟ أكثر من ثلاثة مليون.
لا تعجبوا، فكثير من الناس قرؤوا أكثر من ذلك، العقاد مثلا أعرف أنه قرأ أكثر منها. أما العلماء المتقدمون فمنهم من بلغت مؤلفاته، لا مطالعته، خمسين ألف صفحة.

ومن كان من الطلاب يملك مالا- من راتب من الدولة، أو نفقة له من أبيه- فليخصص منه كل شهر خمسة ريالات أو عشرة لشراء الكتب، على أن يحسن اختيار ما يشتري، يجد أنه لم يكمل دراسته حتى صارت عنده مكتبة صغيرة. ومن لم يجد مالا فإن المكتبات العامة موجودة، والمطالعة فيها مجانية، فليذهب إليها.
المهم حسن اختيار الكتب؛ فالكتب مثل الأطعمة، فيها النافع وفيها الضار، ومنها المغذي المفيد، وما هو كثير الدسم عظيم النفع، ولكن لا تشتهيه النفس، وما هو مشه لذيذ ولكن لا ينفع، ومنها السم القاتل، ومنها ما هو سم ولكنه ملفوف بغشاء من السكر، فمن انخدع بحلاوة الغشاء قتله السم! ومن أكل كل ما يجده – يخلط به الحلو والحامض والحار والبارد – أصابته التخمة وسوء الهضم، ومن قرأ كل شيء صار معه سوء هضم عقلي!

ومن الكتب ما يدخل الجنة، ومنها ما يدخل النار، فلينتبه الطالب، وليسأل من يثق به من المدرسين والعلماء، وإلا كان ترك المطالعة خيرا منها.
لما كنا صغارا لم يكن في أيامنا هذا الرائي (التلفزيون) ولا الراد (الراديو)، ولا كانت هذه الأشياء قد اخترعت، ولم تكن السينما الناطقة قد وجدت، فما كان عندنا من التسليات إلا المطالعة. ولم يكن شيء من أمثال هذه المجلات المصورة، فكنا إذا أردنا أن نقرأ الأشياء الخفيفة لإضاعة الوقت لا نجد إلا قصص الفروسية، كـ(قصة عنترة) و(حمزة البهلوان) و(الملكة ذات الهمة) و(سيرة بني هلال)، وأمثال ذلك.

ثم أخذنا نقرأ كتب الأدب. ولقد قرأت (الأغاني) كله (وهو في بضعة وعشرين مجلدا) في عطلتين صيفيتين متواليتين، وأنا في أول الدراسة الإعدادية. لم أفهم كل ما فيه، ولا نصفه، ولكن قرأته، وعلق في ذهني من أخباره شيء كثير، لا أزال أذكره إلى اليوم رغم قدم العهد، وضعف الذاكرة. يتبع.....
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة