- اسم الكاتب:كتاب: فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي
- التصنيف:تاريخ و حضارة
المطالعة ضرورية للطالب وضرورية للمدرس؛ فالمدرس الذي يقتصر على ما تعلمه في المدرسة، ولا يطالع ليوسع أفقه ويزيد علمه، يتخلف عن القافلة، ويصبح بين الطلاب كأنه طالب حافظ لدرسه! وهي ضرورية للطبيب، ليطلع على ما كشف من أمراض، وما استحدث من طرق العلاج وما جد من أدوية. وضرورية لعالم الدين، ليرى ما حدث في الدنيا، فيعرف كيف يبين حكم الله فيه. وضرورية لعلماء الدين ليعرفوا أحكام دينهم وأسراره ومزاياه. ولو أردنا أن نعرف مقدار رقي بلد فلننظر إلى عدد الكتب التي تباع فيه.
جاءني مرة طالب يشكو مر الشكوى من كثرة ما كلف بحفظه من الشعر العربي. قلت: وما الذي كلفت به؟ قال: كلفت بحفظ مائتي بيت في السنة.
ولما قال: (مائتي بيت). ضخم صوته، ورفع حاجبيه، وفتح عينيه، وضغط على الحروف، كأنه يأتي بإحدى المدهشات.
فقلت له: إن حماد الراوية كان يحفظ أكثر.
قال: ومن حماد الراوية؟
قلت: وجهلك به أعجب. حماد كان في العراق، فأبلغه والي الكوفة أن الخليفة هشام بن عبد الملك يدعوه لأمر مهم، وأعطاه خمسة آلاف درهم لينفق منها على عياله في غيبته ثم سفره على نفقة الخليفة إلى دمشق.
أما الأمر المهم الذي استدعاه الخليفة من أجله، فهو أن الخليفة كان يتوضأ والخادم يصب على يديه من الإبريق، فتذكر أن كلمة (إبريق) قد وردت في بيت شعر، ولم يقدر أن يذكر البيت، فدعاه ليسأله عنه. فخبره أن البيت هو:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
ثم سأله (وهنا الشاهد): كم تحفظ يا حماد من الشعر؟
قال: لا أدري يا أمير المؤمنين، ولكن أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمائة شاعر معروف. قال: هات فأنشده حتى مل الخليفة، فوكل به من يسمع منه، فأنشده من حفظه ألفين ومئتي قصيدة.
فإذا كان في كل منها عشرون بيتا على الأقل فهذه أربعة وأربعون ألف بيت. وأنت تستكثر حفظ مائتي بيت!
إن الحفظ هو الميزة الأولى للذهن العربي، أو الإسلامي إن شئت؛ لأن العلوم كلها قد نقلت حفظا، ورويت رواية، ولم يبدأ التدوين والتأليف إلا في أواخر القرن الثاني.
وحفظ المحدثين أعجوبة، ومنهم- كالدارقطني- من كان يحفظ مئة ألف حديث بسندها. هل تعرف ما هو السند؟ هو طريق رواية الحديث، أي قولهم: حدثنا فلان عن فلان... هذا هو السند. ومنهم من يحفظ من أسماء الرواة عشرات الآلاف وأكثر من ذلك، ومنهم من كان يسمع عشرات الأحاديث فيحفظها من مرة.
لما جاء الشافعي إلى مالك، وقعد في حلقته، كان مالك يملي والطلاب يكتبون، ولم يكن مع الشافعي قلم ولا ورق، فجعل يبل إصبعه بريقه، ويكتب على ذراعه. الكتابة لم تكن لتظهر بالطبع، ولكنه يصنع ذلك ليثبت الأحاديث في ذاكرته. ورآه مالك فحسبه يهزأ به ، فقال له: إنما أكتب ما أسمع لأحفظه، وإن شئت أعدته عليك. قال: أعده. فأعاد الدرس كله.
وقصة البخاري في بغداد أعجب، لما جاء البخاري بغداد وقعد للدرس، وكان شابا، أراد بعض المحدثين أن يختبروا حفظه، فجاؤوا بمائة حديث، فخلطوا متونها بأسانيدها، أي أنهم جعلوا سند هذا المتن لذاك، وسند ذاك لهذا، ثم جاؤوا بعشرة أشخاص، فحفظوا كل واحد عشرة من الأحاديث المخلوطة. فلما قعد البخاري للدرس قام أولهم فسأله: ما تقول في حديث كذا؟ وسرد عليه أحد الأحاديث المخلوطة، فقال: لا أعرفه. فسأله عن الثاني، والثالث، إلى العاشر، وهو يقول: لا أعرفه.
فلما فرغ قعد، وقام الرجل الثاني فصنع مثله، والثالث والرابع... حتى عرضت عليه الأحاديث المائة، وهو يقول: لا أعرفها. وتعجب الناس، وظن العامة أنه رجل جاهل؛ لأنه يسأل عن مائة حديث فلا يعرف منها شيئا. فلما فرغوا قال البخاري للرجل الأول: قم. فقام، فقال له: الحديث الأول الذي سألتني عنه رويته كذا، وجوابه كذا، والحديث الثاني رويته كذا وجوابه كذا... حتى أعاد الأحاديث المائة بخطئها وصوابها.
وليس العجيب حفظه الصواب، بل العجيب حفظه الغلط.
وأغرب من هذه القصة قصة أبي العلاء المعري، ومن رواها مؤرخ ثقة هو ابن العديم. قال: كان المعري في مسجده، وكان إلى جنب المسجد روميان يتكلمان بلسان الروم (وهو لا يعرفه)، ثم اختلفا على شيء، ورفعا الأمر إلى القاضي، فطالب أحدهما بالبينة. فقال له: ما كان معنا أحد، ولكن كان في المسجد شيخ يسمع كلامنا فادع به، فدعا القاضي بالمعري وسأله. فقال المعري: أنا لا أعرف ما قالا، ولكن أعيد عليك ألفاظهما.
وأعادها بالرومية! وهذه القصة-إن صحت- كانت من أعجب العجب.
وقصة المتنبي لما وقف يشتري كتابا صغيرا، فجعل ينظر فيه، فقال له البائع: إن كنت تريد أن تشتريه فهات الثمن، وإن كنت تريد حفظه، فإنك لا تستطيع أن تحفظه في وقفة. قال: ماذا يكون منك إن كنت قد حفظته؟ قال البائع: إن حفظته فهو لك. قال: خذ فانظر. وقرأه عليه، وإذا به قد حفظه!
والغزالي... يقول الغزالي: من أساتذتي الذين استفدت منهم قاطع طريق، خرج علينا مرة فأخذ كل ما في القافلة، وأخذ (تعليقتي) (وهي دفتر المذكرات التي كان يكتب فيها ما يسمعه من العلماء). قال: فجعلت أتوسل إليه وأقول: أنا لا آسف على مال ولا متاع، ولكن تعليقاتي. قال له: وما تعليقاتك؟ قال الغزالي: دفتر فيه علمي كله. فضحك قاطع الطريق وقال: ما هذا العلم الذي يذهب منك إن ذهب دفتر؟
قال الغزالي: فانتبهت لهذا الدرس، وجعلت أحفظ كل شيء أسمعه؛ لئلا يذهب إن ذهب الكتاب.
ومن هنا قالوا:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر