هداية القرآن

0 866

الحمد لله الذي أنزل القرآن الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، يبشر المؤمنين، وينذر الكافرين، ويهدي العباد به إلى صراط مستقيم.
أما بعد:
فإن أعظم وجوه إعجاز القرآن الكريم كونه كتاب هداية للناس عربهم وعجمهم عالمهم وجاهلهم، يردونه فيجدون فيه الهداية التي تخرجهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } (البقرة: 1، 2). وقال: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } (النحل: 89).
ويقول تعالى: { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } (المائدة: 15- 16)، فهذا القرآن يهديهم إلى طرق النجاة ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة.
إن هداية الخلق لما كانت طريق تحقيق الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس؛ فإن الله تعالى قد جعل تلك الطريق غاية من غايات نزول القرآن الكريم؛ فقال سبحانه وتعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } (النحل: 89). وقال: { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } (يونس: 57). وقال: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } (البقرة: 185).
فتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الكريم عن ربه تعالى ولم يكن يدره من قبل، فبلغه للناس، وهداهم به إلى الصراط المستقيم، { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } (الشورى: 52).
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على الناس، فكان لسماعه بين الناس أثر عظيم.
ومما يدل على أثر هذا القرآن في النفوس حتى في نفوس المشركين أنهم لم يستطيعوا إخفاء ذلك الشعور الذي أحدثه فيها، فاضطرهم لمدحه بالقول وإن لم يؤمنوا به؛ قال الوليد بن المغيرة: " والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
ولما ذهب عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه إغراءات قريش أنصت رسول الله لما قال حتى انتهى من قوله، فقال عند ذلك: " أقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، فتلا عليه آيات من سورة فصلت، فرجع عتبة فقال بعض أصحابه لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. هذا قول بعض من أثر عليه القرآن ولكنه لم يهتد به؛ كبرا وحسدا.
أما من فتح من المشركين آنذاك سمعه وقلبه للقرآن فقد ولج كلام الله إلى نفسه المظلمة فشعشع في جوانبها النور؛ لقوة تأثيره عليها، حتى أعلنت شهادة الحق فدخلت في دين الله تعالى.
إن المشركين لما علموا قوة تأثير القرآن على نفوس الناس نهوهم عن استماعه، وأمروهم بإحداث الضجيج عند تلاوته؛ حتى لا يصل إلى إسماع الناس، قال تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } (فصلت: 26).

ولكن رغم حربهم الإعلامية وتشديداتهم الداخلية المحذرة من سماع القرآن لقاطني مكة ووافديها إلا أنهم لم يفلحوا مع كل الناس؛ فالطفيل بن عمرو الدوسي حينما قدم مكة وعرفت قريش مكانته حذرته تحذيرا شديدا من سماع رسول الله؛ حتى بلغ به الأمر إلى أن حشا القطن في أذنيه؛ لكي لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن رحمة الله بالهداية متى ما أريد لها النفاذ إلى القلوب فلن يمنعها شيء، قال الطفيل: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته... فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق.
ولا غرابة أن يحدث القرآن هذا التأثير في نفوسهم وقد قال الله تعالى عنه: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } (الحشر: 21).
وفي قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ما يبين قوة تأثير هذا القرآن العظيم على النفوس وأخذه بمجامع القلوب؛ فقد وقف أسيد بن حضير على مصعب وأسعد بن زرارة فقال: "ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. فقالا - فيما يذكر عنهما-: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد، فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتهلله، ثم قال لهما: وكيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا الى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، قال: فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعملون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة..".

ولم يكن تأثير وهداية هذاالقرآن خاصا بالعرب وحدهم، بل لقد امتد هذا الأثر إلى العجم الذين قد لا يفهمونه، قال تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } (المائدة: 83). فقد نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه.
وكما اهتدى به السابقون فلا يزال يهتدي به اللاحقون؛ فتأثيره لم يقف على أبواب العرب الذين يفهمون لغته ويدركون سر إعجازه البياني؛ فهذا عصرنا عصر العلم والتقدم التقني والعلمي المتنوع يكشف للعالم أن القرآن مازال تأثيره باقيا، بل يزداد يوما بعد يوم، ويدل على ذلك مواكب العلماء والعباقرة والباحثين وعامة الناس الذين يقبلون على الإسلام مهتدين، منبهرين بهذا الكتاب المعجز الذي اشتمل على ألوان متعددة من أساليب الهداية والتأثير على الخلق على اختلاف لغاتهم وتخصصاتهم.
إن المتتبع لطرق تأثير القرآن الكريم ووسائله الموصلة إلى الاهتداء به يجدها متعددة؛ لأن الناس مختلفون في وسائل تأثرهم، فلا تدخل الهداية بالقرآن إلى قلوبهم من سبيل واحدة بل من سبل مختلفة، فهناك نفوس تواقة يغريها الوعد بالخير، فحينما تقرأ ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين من الثواب والعطاء الكريم تشتاق إلى ذلك الخير الموعود فتقبل على الهداية، وهناك نفوس تحتاج إلى زجر ودفع، فعندما تقرأ أو تسمع آيات الوعيد وما أعد الله تعالى من أليم عذابه، وعظيم عقابه لمن عصاه تنتفض خوفا وفرقا فتترك ما هي عليه من العصيان وتسلك طريق الهدى، وهناك نفوس تستهويها الألفاظ وقوتها، والعبارات وحسن نظمها، والأساليب وجمال اتساقها، والصور التعبيرية والذهنية وحسن مأخذها، فمتى وجدت ذلك في آية سمعتها أو قرأت تملكتها حتى تهديها إلى الحق، وهناك نفوس معجبة بالقصص وحسن سوق أحداثها، وموضوعاتها وعواقبها، فتجد في قصص القرآن بعظاتها وعبرها ما يشبع نهمها ويكبح جماح انفلاتها في مراتع الهوى، فقصص القرآن ليست كقصص غيره.
وهناك نفوس أخرى تبحث عن الحجج والبراهين المقنعة لتترك ما هي عليه من الضلال، وهذه الطريق من طرق الهداية لم يغفلها القرآن الكريم فقد ذكر من الحجاج والأدلة المقنعة ما يجعل المنصف يسلم له، ويخضع لسلطانه، ولا يسعه عند ذلك إلا الاهتداء به، فـ" القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوقه في الجدل، أي: بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كل حجة. فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفرا عن تجاهل لا عن جهل، ومن تقصير لا عن قصور".
ومن الجدير بالذكر أن هذا التأثير الهادي الذي يولده القرآن في بعض القراء أو المستمعين له حتى يسوقهم إلى الصراط المستقيم؛ لا يعني أن غيرهم ممن يحسبون من أهل الاستقامة أنهم في غنى عن هداية القرآن، ليس الأمر كذلك، بل كل إنسان محتاج إلى هداية القرآن وحسن أثره في نفسه، إما تعديلا للمسار، وإما زيادة إشراق ووضوح عليه، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض الآلات للوصول إليه، أشار إلى بعض ذلك ابن القيم فقال: " إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خاطب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } (ق: 37) وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه، وأدله على المراد".

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة