لما كانت نشأة الوجود الإنساني تتشكل منذ البدء على صورة التجمعات في إطار مكاني واحد، وكان من خصائص الإنسان أنه مدني بطبعه، فإن تلك التجمعات الإنسانية مظنة النزاعات والخصومات؛ لتقاطع الحقوق والمصالح بينها، فكان لا بد من نظام يحكم هذه العلاقات، ويرتب الأولويات، لهذا عنيت الشرائع بتنظيم المجتمع البشري، وجاء الإسلام بنظم متكاملة لتحقيق هذا المقصد، والسنة النبوية عملت على إرساء حفظ نظام الأمة، من خلال توجيهات سامية تعضده وتوضحه.
وينطلق مقصد حفظ النظام من مقصد التشريع الكلي في حفظ النفس، والعرض، والنسل، والمال، وكلها مصالح ضرورية للإنسان، لا يمكن تحقيقها إلا بحفظ الأمن والنظام، فالفوضى وانعدام الأمن أسباب لاستباحة الاعتداء على هذه الكليات.
ومن هنا أجتمعت كلمة أئمة المسلمين على وجوب نصب الإمام، ومدارك هذا الإجماع كثيرة، ولكن نذكر منها مدركين:
الأول: أخذا من عمل الصحابة الذي صار إجماعا عمليا، من خلال اجتماعهم على بيعة أبي بكر، واعتنائهم بهذا الأمر، قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر شأنهم على ذلك بحيث يبادرون إلى إقامة من يخلفهم في شأنهم طوال فترة الخلافة الراشدة، فهذا يدل على أنه استقر لديهم أن نصب الإمام من المهمات الشرعية العظيمة، لا لذات الإمام، بل لقيامه بمهمة حفظ نظام الأمة، ومصالح جماعة المسلمين.
والثاني: الاستقراء لنصوص الشريعة، وتصرفاتها، التي تجعلنا نقطع بكونها تقصد إلى هذا الأمر، وقد قال ابن عاشور: "أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة ولاة يسوسون مصالحها، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها، ولهذا تعين إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها". كتاب مقاصد الشريعة.
وقد خصص رحمه الله كتابا مستقلا لأصول النظام الاجتماعي في الإسلام تحدث فيه بإسهاب عن أصول الإصلاح الاجتماعي؛ حيث أكد على أهمية مقصد حفظ نظام الأمة وأن "مراد الله في الأديان كلها؛ منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد؛ وهو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله".
ونقل الإمام بدر الدين ابن جماعة في كتاب "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام" عن الطرطوشي في تفسيره لقوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) قيل في معناها: "لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم من ظالمه، لتواثب الناس بعضهم على بعض، ثم امتن الله تعالى على عباده بإقامة السلطان لهم بقوله: (ولكن الله ذو فضل على العالمين) (16).
وفي ضوء هذا المقصد يمكننا النظر في السنة النبوية، وما روته لنا الدواوين من الأحاديث والآثار المتعلقة بالإمامة، وفهمها في ظل هذا المقصد العام، ومن أمثلة ذلك:
الأحاديث الواردة في لزوم السمع والطاعة لولاة الأمور، قال النووي - رحمه الله -: "وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم".
قال ابن جماعة رحمه الله في كتاب تحرير الأحكام: وهو يتحدث عن مقصد الأحاديث الواردة في طاعة ولاة الأمور "لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة". أ.هـ
أما إذا كانوا لا يرعون مصالح الأمة، ولا يلتفتون إلى انتظام أمور الملة، فقد عادوا على مقصد الشريعة من الإمامة بالإبطال، ونقضوا ما نصبوا لأجله، فإن قدرت الأمة على استبدالهم فهو المتعين، ولا مستمسك لهم بعد ذلك بهذه الأحاديث، لأن تلك النصوص تفهم بمقاصدها لا بمجرد ألفاظها.
ومثلها الأحاديث التي أمرت بالصبر على ظلم الولاة إذا وقع الظلم على آحاد من المسلمين، فالسنة النبوية في هذا إنما كانت ترعى هذا المقصد، وهو انتظام مصالح المسلمين العامة، ودفع الفساد الأعظم في أحوال الرعية، فهذه النصوص النبوية ليست صك حصانة لذواتهم وأشخاصهم، فإن الشريعة لا ترضى بالظلم في شيء، ولكن رعاية المصالح العامة هو الذي أوجب غض الطرف عن الضرر الفردي الحاصل منهم على آحاد الناس، بمقابل حماية النظام الكلي الذي يعتبر قوام الحياة.
قال القاضي عياض: قوله في حديث حذيفة "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" رواه مسلم، فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام والانقياد وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك وبحتمل أن يكون ذلك خطابا لمن يفعل به ذلك بتأويل يسوغ للأمير بوجه يظهر له ولا يظهر ذلك للمفعول به وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث ويصح الجمع والله تعالى أعلم اهـ..
وإنما صار شراح الحديث إلى تأويل هذا الظاهر لأن الشريعة لا ترضى بالظلم ولا يمكن أن تشرعن للحاكم أن يجلد ظهرا أو أن يأخذ مالا بغير حق، ولذلك صرح شراح الحديث بكون حق هذا المظلوم محفوظا إلى يوم القيامة، وأن هذا الظالم مسؤول عنه، وغاية ما في الحديث هو الأمر بالصبر على الظلم الحاصل عليه إذا كان في المجازاة عليه خروج إلى ما هو أعظم منه، وهذه موازنة مقاصدية مؤداها حفظ النظام العام، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ومن مظاهر حفظ النظام العام في السنة النبوية: إرساء مبدأ التساوي بين أفراد المجتمع أمام التعاليم والمسؤوليات، ومحاربة التمييز بين الناس بناء على معايير القوة والضعف، كما في الصحيحين عن عن عائشة، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، فقال: أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وفي هذا حفاظ على النظام العام للأمة، فإن أي أمة تتلاعب بمبدأ المساواة أمام القضاء العادل، بحيث لا تظهر سلطة الدولة إلا على ضعفائهم، ويتمتع الكبراء والأقوياء بحصانة من أي مسؤولية أو التزام، فإن هذا يعود على النظام العام بالفساد والاضطراب، وقد كان كفيلا بأن يتسبب بهلاك أمة من بني إسرائيل حين فعلوا ذلك، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة في الحدود، وجعل الناس أمام المساءلة سواء لا فرق في ذلك بين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها.
ومن مظاهر الحث على انتظام الحياة العامة في السنة النبوية وضع النبي صلى الله عليه وسلم قواعد تنظم التعامل مع الأموال العامة، وحدودا تحفظ بها من الضياع والتخوض فيها بغير حق، كما في حديث خولة الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
وأيضا في حديث مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعيا ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال: إذا لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذا، لا أكرهك) رواه أبو داود.
وعن أبى حميد الساعدى رضي الله عنه قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية, فلما جاء حاسبه, قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟! ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء (صوت)، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر (تصيح), ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت) رواه البخاري . وفي رواية مسلم قال عروة: (فقلت لأبي حميد الساعدي: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فيه إلى أذني).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على انتظام شأن المجتمع في كل شؤونه، وفي بيعة العقبة الثانية، ما يؤكد هذه الإشارة، كما عند
أحمد في المسند عن
كعب بن مالك قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم) فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. أي أنه صلى الله عليه وسلم جعل على أهل يثرب اثني عشر قائدا مسئولين عنهم، وذلك حتى يأتي صلى الله عليه وسلم بنفسه مهاجرا وقائدا للمسلمين جميعهم بيثرب.
وأيضا حرصه صلى الله عليه وسلم على انتظام أمر المسلمين ولو في أصغر تجمع يحصل كالسفر مثلا كما في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم) رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني. أي: ليجعلوا أحدهم أميرا عليهم يكون له اتخاذ قرارهم بعد المشورة معهم؛ كاختيار وقت الذهاب والبيات ونحوها من أحوال السفر، ففيه الحث على تقليل الخلاف، وانتظام الشأن، وتوحيد الكلمة ما أمكن.