الاِسْتِسْقاء في السيرة النبوية

0 28

الاستسقاء في اللغة طلب السقيا، وفي الشرع طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليه بسبب انقطاع المطر أو قلته، وقد جبلت النفس البشرية السوية على طلب الغوث والعون في وقت الشدة والحاجة من الله عز وجل وحده، قال الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون}(النمل:62)، وقال تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}(الملك:30)، قال ابن كثير: "أي: نابع سائح جار على وجه الأرض، لا يقدر على ذلك إلا الله، عز وجل، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فلله الحمد والمنة".
ومن الحالات التي يلجأ فيها العباد إلى الله تعالى طلبا للغوث: حدوث القحط وجدب الأرض، وانقطاع المطر وتوقفه عن النزول لفترات طويلة، وقد شرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صلاة الاستسقاء طلبا للرحمة والإغاثة بنزول المطر ممن يملك ذلك ويقدر عليه، وهو الله عز وجل.

والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلالها صلاة الاستسقاء، ومن ذلك:
في رمضان من السنة السادسة للهجرة النبوية، أجدب الناس جدبا شديدا، فاستسقى بهم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل المطر، وكانت هذه أول صلاة للاستسقاء فعلها النبي صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط (انحباس) المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى (أي الخلاء خارج المسجد)، ووعد الناس يوما يخرجون فيه (حدد لهم موعدا يخرجون فيه إلى الصلاة)، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس (أول طلوع شعاعها)، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم (قحطها)، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم (وقت ظهوره)، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث (الماء الذي يغيثنا وينجينا من الهلكة)، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب ـ أو حول ـ رداءه (جعل باطنه ظهرا، وظهره بطنا) وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت (ظهر بها الرعد والبرق)، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول (إشارة إلى غزارة المطر وسرعته)، فلما رأى سرعتهم إلى الكن (كل ما يحمي من المطر)، ضحك حتى بدت نواجذه (ضحك ضحكا ظاهرا حتى ظهرت أسنانه وأضراسه)، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله) رواه أبو داود وحسنه الألباني.

صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، عند حصول موجبها وهو حاجة الناس إلى المطر، وتؤدى كما تؤدى صلاة العيد لما أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما وحسنه الألباني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعا متبذلا متخشعا (ليس متجملا ولا لابسا أحسن ثيابه، بل متواضعا مظهرا للخشوع) مترسلا متضرعا (متذللا يدعو الله ملحا في دعائه)، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد).
(يصلي في العيد)، يعني: في هيئة صلاة العيد، من حيث عدد الركعات، والجهر بالقراءة. ويستحب للإمام الإكثار من الاستغفار والابتهال إلى الله بالدعاء ويرفع يديه به، كما يستحب له أن يحول رداءه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، تفاؤلا بتغير الحال إلى الأحسن، وتفاؤلا بأن يرفع الله عنهم الجدب والقحط، ويسقيهم بفضله ورحمته، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة، فصلى ركعتين، وقلب رداءه) رواه البخاري.
وفي "شرح سنن أبي داود للعيني": "وقد ذكرنا أن حكمة التحويل: التفاؤل بتغيير الحال، وقد جاء ذلك مصرحا في "مستدرك الحاكم" من حديث جابر وصححه، وفيه: (وحول رداءه ليتحول القحط)". وفي شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري: "للطبراني من حديث أنس بلفظ: (وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب)، قلت: كون التحويل للتفاؤل لا ينافي استحبابه عند الدعاء في الاستسقاء في الصحراء، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع".
وليس لصلاة الاستسقاء وقت محدد تؤدى فيه، قال ابن قدامة: "وليس لوقت الاستسقاء وقت معين، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف، لأن وقتها متسع، وبعد الصلاة يقوم الإمام خطيبا مضمنا خطبته وعظا وإرشادا للناس، وسؤالا للخالق سبحانه بنزول المطر". وقال النووي: "لا تختص بوقت، بل تجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار، إلا أوقات الكراهة على أحد الوجهين، وهذا هو المنصوص للشافعي، وبه قطع الجمهور، وصححه المحققون".

قال ابن القيم في "زاد المعاد": "(فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء): وثبت عنه أنه استسقى على وجوه، أحدها: يوم الجمعة على المنبر في أثناء الخطبة. الثاني: أنه وعد الناس يوما يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمس متواضعا متبذلا متخشعا متوسلا متضرعا، فلما وافى المصلى صعد المنبر.. فحمد الله وأثنى عليه، وكبره، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا، وبلاغا إلى حين)، ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءه، وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر وعكسه.. وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة، والناس كذلك، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كالعيد من غير نداء.. الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة في غير الجمعة، ولم يحفظ عنه فيه صلاة. الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد رفع يديه، ودعا الله عز وجل. الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء وهو خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم: "باب السلام".. السادس: أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغه ذلك، فقال: (أو قد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه فدعا)، فما رد يديه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة.. ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء (دعاء الاستصحاء هو الدعاء الذي يقوله المسلم عند كثرة المطر وزيادته والخوف من ضرره)، فاستصحا لهم، وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب، والآكام والجبال، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)".

فائدة:
المعاصي والذنوب من أسباب القحط وحبس المطر عن الناس، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر (المطر) من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه والطبراني وصححه الألباني.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاعل مع الآيات الكونية التي تقع من حوله، فمع الريح كان يسأل الله عز وجل خيرها ويستعيذ به من شرها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) رواه مسلم. ومع الرعد كان يقول: (اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك) رواه أحمد. ومع الغيم والسحاب بالخوف والدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية (الخوف)؟ فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) رواه البخاري. ومع خسوف الشمس وكسوف القمر بصلاة الخسوف والكسوف، ومع حدوث الجدب والقحط، وتأخر نزول المطر بصلاة الاستسقاء، وقد فعل ذلك مرات متعددة، وقد تعلمت الأمة من خلال أحاديثه الشريفة وسيرته العطرة كيفية هذه الصلاة (صلاة الاستسقاء) وغيرها من صلوات وعبادات، وأحكام وتشريعات، وقيم وأخلاق، ومن ثم ستظل السيرة النبوية على مدى العصور والأجيال، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها نبراسا للمسلمين، تضيء لهم حياتهم، وتأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة