زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين5

0 736

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله صحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد تكلم المؤلف رحمه الله عن رياضة النفس وسياستها ومما أورده في ذلك:
والحال الثانية من أحوال رياضتك لها أن تصدق نفسك فيما منحتك (الدنيا) من رغائبها، وأنالتك من غرائبها فتعلم أن العطية فيها مرتجعة، والمنحة فيها مستردة، بعد أن تبقي عليك ما احتقنت من أوزار وصولها إليك، وخسران خروجها عنك.
قيل لأبي حازم - رحمه الله -: ما مالك؟ قال: شيئان: الرضى عن الله، والغنى عن الناس. وقيل له: إنك لمسكين. فقال: كيف أكون مسكينا ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

وقال بعض الحكماء: رب مغبوط بمسرة هي داؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه. وقال بعض الأدباء: الناس أشتات ولكل جمع شتات. وقال بعض البلغاء: الزهد بصحة اليقين، وصحة اليقين بنور الدين، فمن صح يقينه زهد في الثراء، ومن قوي دينه أيقن بالجزاء، فلا تغرنك صحة نفسك، وسلامة أمسك، فمدة العمر قليلة، وصحة النفس مستحيلة. وقال بعض الشعراء:

رب مغروس يعاش به ... عدمته عين مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
فإذا رضت نفسك من هذه الحال بما وصفت اعتضت منها ثلاث خلال: إحداهن: نصح نفسك وقد استسلمت إليك، والنظر لها وقد اعتمدت عليك، فإن غاش نفسه مغبون، والمنحرف عنها مأفون.(أي: ناقص العقل، ضعيف الرأي لا تصدر عنه حكمة).
والثانية: الزهد فيما ليس لك لتكفى تكلف طلبه وتسلم من تبعات كسبه.
والثالثة: انتهاز الفرصة في مالك أن تضعه في حقه، وأن تؤتيه لمستحقه، ليكون لك ذخرا، ولا يكون عليك وزرا.
وعوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة فقال : لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئا، وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وعليه فيها تبعة إلا سليمان بن داود - عليه السلام - فإن الله تعالى قال له: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} (ص: 39). وقال أبو حازم: إن عوفينا من شر ما أعطينا لم يضرنا فقد ما زوي عنا.
وقال إبراهيم: نعم القوم السؤال يدقون أبوابكم يقولون أتوجهون للآخرة شيئا؟.

وقال سعيد بن المسيب: مر بي صلة بن أشيم فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت: يا أبا الصهباء، ادع لي. فقال: رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال: وددت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما أكتسبه يوما فيوما. فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه، ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه.
وقال مورق العجلي: يا ابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك.
وقال بعض الحكماء: من ترك نصيبه من الدنيا استوفى حظه من الآخرة. وقال آخر :ترك التلبس بالدنيا قبل التشبث بها أهون من رفضها بعد ملابستها. وقال آخر: ليكن طلبك للدنيا اضطرارا، وتذكرك في الأمور اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا.

وقال أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذابا كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
ثم الحالة الثالثة من أحوال رياضتك لها أن تكشف لنفسك حال أجلك، وتصرفها عن غرور أملك ؛ حتى لا يطيل لك الأمل أجلا قصيرا، ولا ينسيك موتا ولا نشورا.
وقال مسعر: كم من مستقبل يوما وليس يستكمله، ومنتظر غدا وليس من أجله. ولو رأيتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم.
وقال بعض الحكماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد لا يركن إلى الخدع، ولا يغتر بالطمع. وقال بعض الصلحاء: إن بقاءك إلى فناء، وفناءك إلى بقاء، فخذ من فنائك الذي لا يبقى؛ لبقائك الذي لا يفنى. وقال بعض العلماء: أي عيش يطيب، وليس للموت طبيب.

وقال أبو العتاهية:
ما للمقابر لا تجيب ... إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن ... الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال ... وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن ... نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن ... مجندلا وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما ... عهدي برؤيته قريب
وقال بعض البلغاء: اعمل عمل المرتحل؛ فإن حادي الموت يحدوك، ليوم ليس يعدوك.
فإذا رضت نفسك من هذه الحالة بما وصفت اعتضت منها ثلاث خلال:
إحداها: أن تكفى تسويف أمل يرديك، وتسويل محال يؤذيك. فإن تسويف الأمل غرار، وتسويل المحال ضرار.
والثانية: أن تستيقظ لعمل آخرتك، وتغتنم بقية أجلك بخير عملك. فإن من قصر أمله، واستقل أجله، حسن عمله.
والثالثة: أن يهون عليك نزول ما ليس عنه محيص، ويسهل عليك حلول ما ليس إلى دفعه سبيل. فإن من تحقق أمرا توطأ لحلوله، فهان عليه عند نزوله.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي ذر - رضي الله عنه -: عظني. فقال: ارض بالقوت وخف من الفوت، واجعل صومك الدنيا وفطرك الموت.
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ما رأيت يقينا لا شك فيه، أشبه بشك لا يقين فيه، من يقين نحن فيه. فلئن كنا مقرين إنا لحمقى، ولئن كنا جاحدين إنا لهلكى. وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه -: نهارك ضيفك فأحسن إليه فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك، وكذلك ليلك.

وقال بعض الشعراء:
ألا إنما الدنيا مقيل لراكب ... قضى وطرا من منزل ثم هجرا
وراح ولا يدري علام قدومه ... ألا كل ما قدمت تلقى موفرا
وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه -: أمس أجل، واليوم عمل، وغدا أمل. فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فنظمه شعرا:
ليس فيما مضى ولا في الذي ... يأتيك من لذة لمستحليها
إنما أنت طول عمرك ما ... عمرت في الساعة التي أنت فيها
علل النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها

وقال ذو القرنين - رحمه الله -: رتعنا في الدنيا جاهلين، وعشنا فيها غافلين، وأخرجنا منها كارهين. وقال عبد الحميد: المرء أسير عمر يسير. وقيل في بعض المواعظ: عجبا لمن يخاف العقاب كيف لا يكف عن المعاصي، وعجبا لمن يرجو الثواب كيف لا يعمل.

وقال بعض السلف: الله المستعان على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. وقال آخر: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
وقال آخر: اعملوا لآخرتكم في هذه الأيام التي تسير، كأنها تطير. وقال آخر: الموت قصاراك، فخذ من دنياك لأخراك. وقال آخر: عباد الله، الحذر الحذر، فوالله لقد ستر، حتى كأنه قد غفر، ولقد أمهل، حتى كأنه قد أهمل. وقال آخر: الأيام صحائف أعمالكم، فخلدوها أجمل أفعالكم.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: الناس طالبان يطلبان: فطالب يطلب الدنيا فارفضوها في نحره فإنه ربما أدرك الذي يطلبه منها فهلك بما أصاب منها، وطالب يطلب الآخرة فإذا رأيتم طالبا يطلب الآخرة فنافسوه فيها.
ودخل أبو الدرداء - رضي الله عنه - الشام فقال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح، فاجتمعوا عليه فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون. إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وجمعوا كثيرا فأصبح أملهم غرورا، وجمعهم ثبورا، ومساكنهم قبورا.
وقال عبد الله بن المعتز - رحمه الله -:
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تطوى وهن رواحل
ولم نر مثل الموت حقا كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس نازل
ترحل عن الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل

ونظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب. فقالت له جارية له:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... كان في الناس غير أنك فان

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة