إنا كل شيء خلقناه بقدر

0 684

الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا به، ومن أنكر القدر فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وكذب بما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وما اتفق عليه المسلمون.
روى مسلم عن عمر أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال صدقت).
قال الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}(القمر:49)، وقال: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}(الأحزاب:38)، وقال: {ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا}(الانفال:42)، وقال: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}(الفرقان:2).

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر}(القمر:48، 49).

وقد تقاطر أهل العلم من أهل السنة أعلام الهدى وأنوار الدجى على وجوب الإيمان بالقدر:
قال الإمام النووي: "تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى... وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها".

وقال ابن حجر: "مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وماننزله إلا بقدر معلوم}(الحجر:21)
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: "القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب القدر نقض تكذيبه توحيده". (الفتاوى 8/258)

معنى القضاء والقدر
هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، ثم وقوع هذه الأمور على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى.
ومعنى القضاء والقدر، كما قال ابن حجر: "أن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ذلك على ما سبق به علمه، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته".
وعليه فالإيمان بالقدر هو الإيمان بأن علم الله سبق الموجودات، فعلم ما كان وما يكون وما الخلق عاملون، زمانا ومكانا وكيفية، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون، ثم أوجد ذلك بقدرته ومشيئته.

أركان الإيمان بالقدر:
ولا يتم إيمان العبد بالقدر حتى يؤمن بأربعة أشياء:
. الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء:
قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}(الطلاق:12)، وقال {إن الله كان بكل شيء عليما}(النساء:32)، وقال: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}(يونس:61)، وقال {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ۚ ويعلم ما في البر والبحر ۚ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}(الأنعام:59).

. الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ:
قال تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}(يس:12)، وقال: {وكل شيء أحصيناه كتابا}(النبأ:29)، ,قال: {وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر}(القمر:52، 53).
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء).

وفي سنن الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان، وما هو كائن إلى الأبد).
واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين، وبأم الكتاب، والكتاب المسطور. قال تعالى{ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب}[الحج:70]، وقال: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}[الزخرف:4].

. الإيمان بقدرة الله الشاملة ومشيئته النافذة
التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر.. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.. قال سبحانه: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}(يس:82)، وقال: {إن الله يفعل ما يشاء}(الحج:18)، وقال: {إن الله يفعل ما يريد}(الحج:14)، وقال: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ۖ وما يمسك فلا مرسل له من بعده ۚ وهو العزيز الحكيم}(فاطر:2)... وقال {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}(سورة الإنسان، وسورة التكوير).
فهو سبحانه فعال لما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.

. الإيمان بأن الله خالق كل شيئ 
فهو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وخلق العباد وأعمالهم، بأن أعطاهم القدرة عليها والإرادة لها، قال جل في علاه: {الله خالق كل شيء}(الزمر)، وقال: {والله خلقكم وما تعملون}(الصافات:96).

النهي عن التعمق والتنطع
روى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)(حسنه الألباني).

إن العقل له حدود ينتهي إليها خاصة في هذا الموضوع الشائك، فإذا لم يقف عند تلك الحدود بل تجاوزها ورام الوصول إلى ما لا سبيل إليه تاه وزاغ وضل، وإنما كان سبب ضلال من ضل في هذا الباب أنهم أطلقوا لعقولهم العنان ولم يكبحوا جماح فكرهم، ولم يقفوا عند حدودهم فكان ما كان ولا عاصم إلا الله.

وصيانة لعقل المرء ودينه نهى الأئمة الراسخون عن التنقير في مسائل القدر، والتعمق في دقائقه ومساءلة الله عن فعله في الخلق، إذ الإحاطة بكل هذه الأمور مما لا تبلغه العقول ولا يحيط به العلوم القاصرة للبشر.. فالقدر كما قال الأئمة سر من أسرار الله العظيمة والكبيرة.

القدر سر الله في خلقه:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون}. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب. ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين".

وقال الإمام الآجرى: "لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل".

وقال الإمام أحمد: من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما التصديق بها والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر".

وقال الطحاوي أيضا: "فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه‏، ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام‏، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان،  فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار‏، موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا‏".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة