لما كان المال هو قوام الحياة الذي جعله الله قياما للناس، وقد فطرت النفس البشرية على محبته حبا جما، كان لا بد من أسس إيمانية وتطبيقية للتعامل مع هذه الفطرة، وفق منهج يحقق التوازن بين حق النفس وحق الغير، فاهتمت الشريعة بالجانب الاقتصادي تأصيلا وتفريعا، ولكن لم تخل المجتمعات البشرية من تجاوزات وانحرافات عن هذا المنهج، فبرزت مشكلات اقتصادية، وانحرافات مالية متنوعة، ولم يزل العلماء يتلمسون آفاقا للحلول العادلة لهذه الأزمات، وقد كانت السنة النبوية قبلتهم التي تقدم لهم الكثير من الحلول العبقرية، من خلال تجلية مفهوم الإدارة النبوية وتطبيقاتها في المال والأعمال، ومن خلال مكافحة كل أشكال الفساد، ويمكن إجمال ذلك بنقاط هي:
أولا: الممارسة النبوية الاقتصادية:
مارس النبي صلى الله عليه وسلم كافة أشكال العمل الاقتصادي، بدءا من رعي الغنم، إلى ممارسة كل أشكال التجارة، كما مارس الأعمال اليدوية الذاتية البيتية، ليربي في المجتمع قيمة الاعتماد على النفس من خلال رعي الغنم على الرغم من المشقة التي تتطلبها هذه الوظيفة وفي هذا المقام يروى أبو هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال" ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم" فقال أصحابه وأنت؟ فقال "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة". رواه البخاري في صحيحه.
فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حينها يسعى لكي يحقق دخلا لنفسه يغنيه، فهو يشعر بضيق الحال لدى عمه أبي طالب، كثير العيال، فربما كان عمله لمساعدة عمه الذي آواه وكفله بعد وفاة جده، وقد قام بكفالة ابن عمه علي بن أبي طالب لاحقا.
ومن خلال ممارسته صلى الله عليه وسلم لفنون التجارة، حيث حقق نجاحات باهرة في ممارسته للتجارة منذ صغره في رحلاته المتتالية إلى الشام ومتاجرته بمال السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم إقامة سوق للمسلمين، يقام فيها اقتصاد الدولة، على أسس سليمة تنضبط بها جميع التعاملات الاقتصادية، بعيدا عن كل أشكال الفساد.
ثانيا: إيجاد المجتمع التراحمي:
عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تنمية القيم الأخلاقية العالية التي أثرت في إرساء معالم التنمية الاقتصادية بعد تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، من خلال بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الأغنياء والفقراء، فأقام المجتمع على أسس إيمانية وأخوية متينة، يتقاسمون الزروع والدور، ويؤثر بعضهم بعضا على حاجته وخصاصته، فكان هذا المجتمع التراحمي أساسا صلبا صالحا لإقامة المنظومة الاقتصادية بشكل متوازن، بل وسائر النظم الأخرى الاجتماعية، أو السياسية، وغيرها.
وهذا المجتمع الذي يتمتع بأخلاق الإيثار والمواساة تتلاشى معه إشكالات اقتصادية واسعة، وهو الحل الذي لم تقدر على إيجاده الدولة الحديثة بجامعاتها العملاقة، ومؤسساتها التعليمية ذات الميزانيات المالية الضخمة، فباتت المجتمعات موبوءة بالأنانية المفرطة، وقامت الاقتصاديات العالمية على أساس الرأسمالية التي تعزز النزعة الفردية المطلقة (الأنانية)، فمكنت لأصحاب السلطة والثروة من التغول على الطبقة الفقيرة والمتوسطة، والمراباة في أموال الناس، وأصبحت الثرواة والأرزاق (دولة بين الأغنياء) منهم، وبالخلاصة فإن اقتصاد العالم اليوم يفتقد ذلك المجتمع التراحمي الذي تحكمه الأخلاق والقيم الذاتية، وإيجاده هو أحد الحلول الحقيقية التي نستلهمها من التوجيهات النبوية في مجال المال والأعمال.
ثالثا: أخلاقيات المال والأعمال في السنة النبوية:
إن نصوص السنة النبوية وما تضمنته من منظومة متكاملة من القيم: كالأمانة، والصدق، والإتقان، ونبذ كل صور تعاطي الرشوة والغش، وما تضمنته نصوصها كذلك من نبذ لروح الاتكالية في العنصر البشري، الذي يعتبر أساس التنمية الاقتصادية، فهي بلا شك تضمن أعلى درجات الأداء والكفاءة في العملية الاقتصادية، وبذلك تتحقق المثالية في النتائج، جاء في الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صححه الألباني في الصحيحة نظرا لشواهده.
وفي إطار المعالجات النبوية الاقتصادية حاربت السنة النبوية ظواهر الفساد المالي كظاهرة الغش في المعاملات الاقتصادية، وكذا تعاطي الرشوة، أو السقوط في فخ المعاملات الربوية التي حاربتها نصوص السنة النبوية لما لها من انعكاسات خطيرة على البنية الاقتصادية للدول وتساهم بشكل كبير في اختلال التوازن في النظام الاجتماعي، وبث روح الاستغلال وسلب الحقوق مما يربك المنظومة الاقتصادية فتتخلف الأمة عن التقدم والرقي الحضاري والهيمنة.
وفي هذا السياق نجد نصوص السنة النبوية تحرص كل الحرص على تطبيق أخلاقيات إدارة المال والأعمال، باعتبار أن ممارسة العملية الاقتصادية في المال والأعمال من أقرب القربات إلى الله عز وجل، إذ أن كل عمل يبتغي فيه صاحبه وجه الله تعالى ونفع أمته والمساهمة في تقدمها وريادتها يعتبر عبادة.
رابعا: النهي عن السلبية الاجتماعية:
الهروب عن التكاليف الاجتماعية، والفروض الكفائية، سلوك معيب في منطق الشريعة، فهو يؤدي بالضرورة إلى الانسحاب من الحياة الاقتصادية، وهذا مرفوض تماما لمصادمته مقصد إعمار الأرض، ومبدأ الاستخلاف.
ففي البخاري عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: فأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
خامسا: إدارة مشكلة الفقر في السنة النبوية:
عالج النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة الفقر والبطالة بمعالجات وقائية وعلاجية:
فالعلاج الوقائي يتمثل في: التشجيع على السعي في الأرض، وطلب الرزق، وتحصيل فرص العمل المتنوعة، فخرج من المجتمع حينذاك التاجر، والصانع، والمزارع، وكان يشجع كل القطاعات الفاعلة.
فشجع قطاع التجارة التي كانت ولا تزال أهم النشاطات الاقتصادية التي توفر للمجتمع مصدرا من مصادر الدخل، وتوفر لهم الأقوات والسلع غير المحلية، ولا ننسى تلك الشهادة النبوية التي تعتبر وساما لكل تاجر تشبع بقيم الصدق والأمانة، وقد شهد بها النبي ﷺ بقوله: " التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين" رواه المنذري في الترغيب والترهيب، وصححه الألباني.
وفي ذلك رسالة منهﷺ لمن تقاعس عن مهمة التفاعل مع الأنشطة الاقتصادية لمجتمعه، وليصحح بذلك مفهوم العبادة ويوجهها إلى الضرب في الأرض، والمشاركة في التنمية الاقتصادية، التي تحل مشكلة الفقر والبطالة.
وشجع القطاع الزراعي في رسالة منه ﷺ لأهمية تحقيق الاكتفاء الغذائي، كما في حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له صدقة" أخرجاه في الصحيحين.
ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم لأي فرد من أفراد المجتمع أن يبقى عاطلا دون كسب أو عمل، بل كان يوجههم لأي فرصة يقدر من خلالها على كسب لقمة الحلال، ففي حديث أنس، أن رجلا من الأنصار، أتى النبي ﷺ يسأله، فقال: ((أما في بيتك شيء؟ بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله ﷺ بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك، وأشتر بالآخر قدوما، فائتني به فأتاه به، فشد فيه رسول الله ﷺ عودا بيده ثم قال:اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما. فقال رسول الله ﷺ: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في يوم وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذى غرم مفظع، أو لذى دم موجع)). رواه أبوداود.
علم النبي ﷺ درسا وافيا لمن جاءه يتسول، بتوجيهه إلى حل مشكلة فقره بالتفاعل مع الحياة الاقتصادية، فقال له: " لا أرينك إلا بعد خمسة عشر يوما..." ثم قال له: " هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك" وفي رواية: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع رواه أبو داود.
فلم يعالج النبي ﷺ مشكلة السائل بالإعانة المادية المؤقتة، كما لم يعالج المشكلة بالوعظ والتنفير من المسألة، بل حمله مسؤولية حل مشكلة فقره، بالاعتماد على نفسه، فقد حل النبي ﷺ مشكلة الفقر في نطاق العمل الإنتاجي وليس في نطاق الصدقة.
وفي رواية الإمام مسلم عن أبي هريرة يقول: قال رسول اللهﷺ:"لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلا، يعطيه أو يمنعه"
وفي حديث حكيم بن حزام في الصحيحين قال: سألت النبيﷺ فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، فقال: " إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل وال يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى".
وروى الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي، ذي مرة: أي قوة، فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، وبهذا لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمتبطل كسول حقا في الصدقات؛ ليدفع القادرين إلى العمل والكسب.
وأما الخطوات النبوية لمعالجة الفقر بعد حصوله فتتمثل في أن يكفل الأغنياء الموسرون أقاربهم الفقراء، وذلك لما بينهم من الرحم والقرابة، بحسب درجاتهم وقربهم، كما في مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي رمثة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يد المعطي العليا، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ". وفي المسند بسند صحيح عن سلمان بن عامرالضبي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصدقة على المسكين صدقة، وإنها على ذي الرحم اثنتان: إنها صدقة، وصلة ".
ثم ينتقل الوجوب إلى المجتمع الموسر، من خلال حلول التكافل الاجتماعي للأفراد العاجزين عن الكسب، في استيعابهم في إطار نظام الزكوات، والصدقات، والكفارات، التي تغطي هذه الفئة التي لا يخلو منها مجتمع بشري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها مقصورة على الفقير الذي لا يستطيع العمل والكسب.
يقول د. شوقي إسماعيل شحاتة: "و زكاة المال بما تستقطعه من دخول وثروات، وبتخصيص إنفاق حصيلتها في مصارف اجتماعية معلومة ومحددة، تعمل على إعادة توزيع الدخول في المجتمع، فهي تؤخذ من الأغنياء لإغناء الفقراء".
هذه معالم عامة في المعالجات الاقتصادية والمالية في السنة النبوية، وكلما اقتربنا من المشكلات الاقتصادية الجزئية فلن تخذلنا دواوين السنة والآثار، ومصادر السيرة النبوية عن تقديم الحلول المناسبة لتلك المشكلات، وما جهود فقهاء الصيرفة الإسلامية اليوم إلا خير شاهد على ما نقول، فقد كانت السنة النبوية حاضرة في تكييفاتهم الفقهية، واجتهاداتهم التي قدمت البدائل الاقتصادية، والحلول الشرعية في كثير من الأزمات المالية على المستوى المحلي والدولي، وسيأتي بإذن الله نماذج لتلك الحلول النبوية المتصلة ببعض أبواب المعاملات المالية في مقالات هذا المحور بتيسير الله وعونه.