- اسم الكاتب: من كتاب: (قطوف البشرى) لعبد العزيز البشري
- التصنيف:تاريخ و حضارة
لا غرو علي إذا زعمت أن الأدب ليس مدينا لشيء من الأشياء بقدر ما هو مدين للحروب، هو مدين لها في قوته وازدهاره وسعة آفاقه، وكثرة تصرفه في فنون المعاني وتقلبه في شتى الأغراض.
لقد دخل حديث الحروب وأسبابها وما يتصل بها في أكثر أبواب الأدب، واحتل منها المكان الأوقع بما له من شدة القول وجزالة اللفظ، وتلاحم النسيج، وإشراق الديباجة، ورقة التشبيه، وبراعة التخييل، ولك أن تقلب النظر في أبواب الأدب لتدرك كيف أمد حديث الحروب وغذى، وكيف أعز وأغنى، وما ولد من المعاني واستحدث من الصيغ وأجد من رائع الكلام، وإنك لتجري هذا الحكم بدرجة سواء على أبواب الوصف والفخر وما إليه من الحماسة والمديح، والرثاء والهجاء حتى الغزل، وأي شيء لعمري وراء ذلك من أبواب الآداب؟.
ولم يقتصر تصرف البلاغات الحربية على أحد الفنين، بل لقد شاعت في النظم والنثر جميعا، وكان في الذروة بالضرورة منها ما جاء به القرآن الكريم، ويأتي بعد ذلك كلام النبي — عليه الصلاة والسلام.
وبعد، فلقد قالت العرب وقال المستعربون في وصف الحروب وجياد الخيل، والسلاح، ووصف الشجعان، والخوارين الجبناء، كما قالوا في الصبر والإقدام، والمكيدة في الحرب، والتحفظ على العدو، وناهيك ما تفاخروا به من الشجاعة وتكاثروا، وما تذاموا به من الجبن وتعايروا، وما مدحوا به الكماة فأبلغوا في الثناء، وما رثوا به قتلى الحروب فأفلقوا في الرثاء، وذلك إلى ما أثر في هذه الأبواب من حكم الحكماء، وما سار من أوامر القادة ووصايا الأمراء … إلخ.
وإذا كان استقصاء ما قيل في الحروب وأسبابها وما يتصل بها مما يتجاوز جهد الطاقة، وإذا كان الإتيان على ما جاءت به كتب الأدب والتاريخ والسير مما لا يحتمله مقال، بل إن محله الأسفار الصخام، فإن من الحق علينا أن نأتي بألوان من النماذج في هذه الأبواب، ولنبدأ ببعض ما ورد في القرآن العزيز:
[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم]
وقال جل وعلا: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم ۖ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ۖ وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم].
وقال: [فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ۚ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما].
وقال: [والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا ۚ وإن الله لهو خير الرازقين].
ونختتم ما أوردنا من آي الجهاد بما وصف القرآن به جياد الخيل في الغارة، قال — جل مجده وتعالى ذكره: [والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا].
الله أكبر! هذه بلاغة تقطع دونها علائق الأقلام، وليت شعري هل يعدل كلام الله كلام!
والآن ننتقل إلى ما قيل في الشجاعة والإقدام، ونبدأ بما كان من خير الأنام، عليه الصلاة والسلام:
روى الإمام البخاري بسنده أن رجلا سأل البراء بن عازب — رضي الله عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله ﷺ؟ قال: نعم! لكن رسول الله ﷺ لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبي ﷺ يقول: (أنا النبي لا أكذب، وزاد غيره: أنا ابن عبد المطلب). قيل: فما رئي يومئذ أحد أشد منه.
وعن علي — رضي الله عنه — قال: إنا كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق، التقينا برسول الله ﷺ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ﷺ وهو أقربنا إلى العدو.
وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه ﷺ إذا دنا العدو لقربه منه.
ومن أحسن ما قيل في فضل الجهاد والصبر على شدائده، قول النبي ﷺ: (الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها)، و(الجنة تحت ظلال السيوف)؛ و(والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل).
وقال علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — يوم صفين، وقد قيل له: أتقاتل أهل الشام الغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ فقال: أبالموت تخوفونني؟ فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت علي! بقية السيف أنمى عددا، وقيل له: إن درعك لا ظهر لها، فقال: إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى!
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا فيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!
وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا، ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف!.
وقالت عائشة — رضي الله عنها: إن لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأف للجبناء أف للجبناء!
وتندر العرب بالجبان وجعلوه أضحوكة من ذلك : كان أبو حية النميري من أجبن الناس وأكذبهم، وكان له سيف يسميه "لعاب المنية" ليس بينه وبين الخشب فرق، روى بعضهم أن جارا لأبي حية حدثه فقال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا، فأشرقت عليه وقد انتضى سيفه "لعاب المنية" وهو واقف في وسط الدار، وهو يقول: أيها المغتر بنا المجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة ضربته لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني أدع قيسا إليك لا تقم لها! وما قيس؟ تملأ والله الفضاء لفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينما هو كذلك إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا!.
هذه نماذج يسيرة جدا جدا إذا أضيفت إلى ما قيل في الحرب وآلاتها وسائر أسبابها، على أنها فيما أرى كافية حق الكفاية في الإبانة عن مبلغ ما أجدت الحروب على الآداب.
وبعد، فلقد قال السابقون في الفوارس المعلمة والخيل المسومة، والقسي الموتورة، والسهام المنصولة، والقنا الحظية، والسيوف الهندوانية، كما قالوا في خزف المقاليع ورمي المجانيق، وذلك كل ما شهدوا في زمانهم، وأدركوا من آلة حربهم وقتا لهم، ومع هذا فقد أطالوا وأكثروا وأبدعوا فيما خيلوا وصوروا، وانتظموا البديع من الفصيح، وآتوا بالعاجب من الصيغ، فضاعفوا ثروة العربية وأبعدوا آفاقها إلى غاية المدى.
فهل لنا أن ننظر من كتابنا وشعرائنا اليوم مثل هذا، وقد أجد العلم للحرب ما أجد مما لا يكاد يحصيه عد، ما بين مزمزمات في جو السماء، ومدمدمات على متن الغبراء، وغائصات في جوف الماء وسابحات على وجه الدأماء، وقاذفات من اللهب بأمثال الشهب وناضحات بالغاز الخانقة، وراميات بالقنابل الناسفة والحارقة … إلخ. ما أعدت علوم العسكرية العالمية المجرمة من آلة القتل والدمار ومن أهوال تشهد العالم أهوال القيامة.