معالجات نبوية سياسية 1-1

0 163

 لم تكن الحلول النبوية حبيسة المجالات التعبدية، أو الاجتماعية فسحب، بل حتى المجالات السياسية والمالية، فقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم قيادة الدولة، وله توجيهات قولية وفعلية وتقريرية شكلت مرجعية ثابتة في المجال السياسي، ومن تلك الإشكالات التي عالجها النبي صلى الله عليه وسلم النفوذ السياسي، والتغول على الأموال العامة، وهي من المشاكل التي عانت منها الأمة قديما وحديثا.

روى الزهري أنه سمع عروة، قال: أخبرنا أبو حميد الساعدي، قال: استعمل  النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد يقال له : ابن اللتبية على صدقة فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : "ما بال أقوام نبعثه فيأتي فيقول : هذا لله وهذا لي ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر " ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه فقال: " ألا هل بلغت " (ثلاثا). رواه البخاري ومسلم.

 فالمشكلة في ظن هذا الموظف - بالتعبير المعاصر- استحقاقه لتلك العطايا والهدايا التي حصل عليها أثناء توليه، والعلماء متفقون على أن العامل عليها: وهم السعاة المتولون لقبض الصدقة، لا يستحقون على قبضها جزءا منها معلوما سبعا أو ثمنا، وإنما له أجرة عمله على حسب اجتهاد الإمام. 
وفي الحديث معالجة نبوية راقية ببيان العلة التي لأجلها حصل هذا العامل على الهدية، وهي الولاية التي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم إياها، ولولاها لما أهدي له، وهذه الولاية ليست كسبا منه بل هي حق للمسلمين، وهو إنما كان نائبا عنهم، وقد قبض أجرته، فلا استحقاق له بما سواها.
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: فدلت هذه الكلمة النبوية (فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا) على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا وعدما كان العمل سببها وعلتها، لأنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لانتفت الهدية، وإنما وجدت بالعمل فهو علتها. انتهى
فالمال العام ترجع ملكيته للمسلمين، وولي الآمر ناظر عليه، ونظره وتصرفه فيه منوط بالمصلحة، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المبدأ في عبارة وجيزة بليغة في الحديث الصحيح الذي قال فيه -ﷺ- (ما أعطيكم ولا أمنعكم، وإنما أنا قاسم، أضعه حيث أمرت)، وأصل متن الحديث في الصحيحين من حديث جابر ومعاوية، وهذا لفظ الإمام أحمد، وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة (الله المعطي، وأنا القاسم).
فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ملكية هذا المال، إنما وظيفته التوزيع والتقسيم حسب ما أمره الله، من التصرف بما تقتضيه مصالح المسلمين العامة والخاصة، وإذا كان ذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فغيره من ولاة المسلمين من باب أولى.
وقد أشار لذلك عمربن الخطاب كثيرا، ومن ذلك قوله: (أما والله ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، وما منا أحد من المسلمين إلا وله في هذا الفيء حق، ولئن بقيت ليبلغن الراعي وهو في جبال صنعاء حقه من فيء الله) انتهى، الأموال لابن زنجويه.
 
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال، عن عطية بن قيس، قال: (خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلا عن أعطيتكم، وأنا قاسم بينكم ذلك، فإنه ليس بمالنا؛ إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم).
 
يقول الكاتب ابراهيم السكران في مقال له بعنوان "مغلوطات المال العام": وحديث ابن اللتبية هو الأصل الشرعي في تنظيم (استغلال النفوذ السياسي)، وفي هذا الحديث من الفقه ووسائل معالجة سوء استعمال السلطة مبادئ غزيرة، وسنذكر بعض الأمثلة:
منها: تجريم استغلال النفوذ والاسترباح من الوظيفة ومنع أي صورة من صور المحاباة للولاة والمسؤولين تحت أي غطاء كهدية ونحوها.
ومنها: الضابط الذي يميز هل المنفعة والتسهيلات التي استفادها المسؤول من الناس جائزة أم لا؟ وهو ضابط لوكان في غير الولاية فهل سيصله هذا النفع أم لا؟.
ومنها: أن الأموال المتحصلة من الهدايا التي للولاة لا ترجع إلى المهدي، بل تذهب للمال العام، لأن النبي لم يرجعها للمهدين، بل أخذها للمال العام، وهذا الإجراء النبوي بناء على قاعدة المعاملة بنقيض المقصود، وقد أشار الفقهاء لهذه المسألة.
ومنها: محاسبة الولاة بعد الانتهاء من أعمالهم فقد نص الحديث على المحاسبة كما في رواية البخاري، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله -ﷺ رجلا من الأسد، على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه. رواه البخاري.
ومنها: أن محاسبة الولاة والوزراء والمسؤولين لا تعني أبدا إساءة الظن فيهم ولا الطعن في أمانتهم، ولكنه إجراء عدلي يخضع له الجميع لضمان سلامة إدارة المال العام، فإن ابن اللتبية صحابي أمين، ومع ذلك حاسبه -ﷺ- قال ابن القيم في إغاثة اللهفان تعليقا على أن أمانة المسؤول لا تمنع محاسبته:
(للحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري: (أنه بعث ابن اللتبية عاملا على الصدقة فلما جاء حاسبه) .
ومنها: أنه لا مانع أن تكون المحاسبة المالية للولاة والمسؤولين علنية، ففي نص حديث أبي حميد الساعدي في البخاري ومسلم أن النبي صعد المنبر وحاسب وعاتب والي الأموال ابن اللتبية، ولم يحاسبه أو يعاتبه بشكل سري أوفي غرفة خاصة، كما يقول الراوي: (فقام رسول الله -ﷺ- على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي ..) البخاري، ومسلم.
ولا يزال في حديث ابن اللتبية الكثير من مبادئ وقواعد محاسبة الولاة وضبط استعمال السلطة وحماية المال العام وكبح استغلال النفوذ، وهي بحاجة لتفقه خاص، وليس هذا محل بسطها. انتهى

ومع كثرة القوانين التي وضعت للردع عن استغلال السلطة للتعدي على المال العام، إلا أن هذه المشكلة لا تزال حاضرة في المجتمعات والدول، وهذا يدعونا للتأمل في الحلول النبوية القائمة على مبدأ الرقابة الذاتية والمحاسبة القانونية، ولا غنى بأحد الأمرين عن الآخر، فزرع الرقابة الذاتية من خلال التذكير بعظيم جرم التخوض في المال العام، وخيانة أمانة الوظيفة واستغلال النفوذ، وبيان العقاب الأخروي المترتب على ذلك، وهو ما يشكل رادعا ذاتيا في نفس العامل، ويجعل منه مسؤولا عفيفا يخاف الله، ويراقب تصرفاته بميزان الحلال والحرام، وهذا ما تميزت به المعالجات النبوية، علاوة على مبدأ المحاسبة القانونية.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة