عذاب القبر وأسبابه عند أهل السُنَّة

0 164

 عذاب القبر ونعيمه أمر غيبي ثابت بنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، ويلحق الروح والبدن معا. ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيـمان بعذاب القبر ونعيمه، وقد أشار القرآن الكريم إلى عذاب القبر في قول الله تعالى عن آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}(غافر: 46). قال القرطبي: "والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ.. احتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}". وقال ابن كثير: "وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا}".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}(إبراهيم:27)) رواه البخاري. وفي رواية للنسائي صححها الألباني قال البراء: "{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}: نزلت في عذاب القبر).

وعذاب القبر ليس مختصا بالكافرين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حسب حاله من عمله، وما استوجبه من ذنوبه ومعاصيه. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر) رواه مسلم. قال الطيبي: "ومعنى (لولا أن لا تدافنوا) أنهم لو سمعوه لتركوا التدافن حذرا من عذاب القبر، أو لاشتغل كل بخويصته حتى يفضي بهم إلى ترك التدافن.. وقيل: أراد لأسمعتكم عذاب القبر، أي صوته ليزول عنكم استعظامه واستبعاده". وفي كتاب "الإفصاح عن معاني الصحاح للشيباني": "هذا الحديث يدل على وجوب الإيمان بعذاب القبر.. والفقه في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد حرصه على أن يبين للمسلمين كلهم عذاب القبر يقينا لا يتمارون فيه حتى كاد يدعو الله أن يسمعهموه". وقال القرطبي: "قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن عذاب القبر ليس مختصا بالكافرين، ولا موقوفا على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته".
وقال ابن تيمية: "وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة: هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع". وقال في "الاختيارات الفقهية": "ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأيضا تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم أو العذاب".
وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية: "وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول".
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل من عذاب القبر، ويأمر أصحابه بالتعوذ منه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) رواه البخاري.

من عقيدة أهل السنة والجماعة أن هناك عذابا في القبر بحسب حال الميت من عمله، وما استوجبه من ذنوبه ومعاصيه. والأسباب التي تؤدي إلى عذاب القبر كثيرة، وهي على سبيل الإجمال كما قال ابن القيم عن الذين يعذبون في قبورهم: "فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته، وامتثلت أمره واجتنبت نهيه ، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب".
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أسباب معينة تؤدي إلى عذاب القبر، ومن ذلك:

1 ـ
عدم الاستتار من البول، والنميمة:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط (بستان) من حيطان المدينة، أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر (لا يتجنبه ويتحرز منه) من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة) رواه البخاري. وفي رواية لابن ماجه وصححها الألباني: (أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة). يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الذنوب ما يعده الإنسان صغيرا لا يبالي أن يقترفه، ويظنه هين الشأن، وهو سيء ومؤلم العاقبة، بل ومن أسباب عذاب القبر، ومن ذلك: عدم الاستتار والاحتراز من البول عند قضاء الحاجة، والمشي بالنميمة ونقل الكلام بين الناس بقصد الإضرار بهم وإفساد علاقتهم ببعض، سواء أكان ذلك بالقول أم بالكتابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) رواه مسلم.
قال ابن حجر: "(يعذبان وما يعذبان في كبير) .. فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين، لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف.. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر". وقال البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "لعله عنى بالكبيرة: ما يستعظمه الناس ولا يجترىء عليه. و (النميمة) - وإن كانت من الذنوب إلا أنها - يجترىء عليها ولا يبالى بها.. وهو دليل على عذاب القبر". وقال ابن بطال: "قال المهلب: قوله: (وما يعذبان فى كبير) يعني: عندكم، وهو كبير عند الله".
2 ـ الغلول:
الغلول بالمعنى الخاص هو الأخذ من الغنيمة سرا قبل قسمتها، وبالمعنى العام مطلق الخيانة. جاء في "حاشية البجيرمي على الخطيب": "غلول بضم الغين واللام أصله الخيانة، لكنه شاع في الغلول في الغنيمة". والغلول من الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له: مدعم، فبينما مدعم يحط (يضع) رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر، فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة (كساء يشتمل به الرجل) التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم (أي أخذها قبل قسمة الغنائم وكان غلولا)، لتشتعل عليه نارا. فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين (سير أو سيرين يكونان على ظهر القدم عند لبس النعل) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: شراك من نار أو شراكان من نار) رواه البخاري. قال الطيبي: "وفيه غلظ تحريم الغلول، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره في التحريم حتى الشراك". وهذا الحديث بين أن الغلول سبب من الأسباب المستوجبة للعذاب في القبر، ولذلك أورده الإمام البيهقي في كتابه المتعلق بإثبات عذاب القبر، وبوب على الحديث بقوله: "باب ما يخاف من عذاب القبر في الغلول".

3 ـ المدين الذي عليه دين:
من الأسباب التي تضر الميت في قبره ما عليه من دين، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه: (أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالا، قال: فأردت أن أنفقها على عياله (أي: ولا أقضي الدين)، قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فاقض عنه، فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت، قلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بينه، قال: أعطها فإنها محقة. وفي رواية: صادقة) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أها هنا من بني فلان أحد؟ - ثلاثا - فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك في المرتين الأوليين، أن لا تكون أجبتني، أما إني لم أنوه بك إلا بخير، إن فلانا لرجل منهم مات مأسورا بدينه) رواه النسائي وصححه الألباني.
4 ـ عذاب الميت ببكاء الحي:
عندما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب رضي الله عنه يبكي، يقول: (وا أخاه، واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه) رواه البخاري. قال البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته". وقال القرطبي: "قال بعض العلماء أو أكثرهم: إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره".

من عقيدة أهل السنة والجماعة أن هناك عذابا في القبر بحسب حال الميت من عمله وحاله. وينبغي أن يعلم أن من استحق عذاب القبر من أهل الإيمان قد لا يعذب، فهو تحت مشيئة الله عز وجل، وقد يندفع العذاب لموانع تدفع ذلك، ومن هذه الموانع التوبة المقبولة، أو الحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة، أو شفاعة شفيع مطاع، أو أن يتجاوز الله عنه بفضله ورحمته ومغفرته. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك، إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه {لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:48)".
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الآمنين الناجين من عذاب القبر وفتنته، وأن يجعلنا من المنعمين في قبورهم..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة