ازرع في شعبان.. تحصد في رمضان

0 447

ها هو شهر شعبان قد أهل علينا.. حاملا إلينا نسائم الخيرات، وبشائر البركات، مذكرا بقرب قدوم شهر النفحات والرحمات، وكأنه ينبهنا إلى قرب رمضان وينادي علينا بحسن الاستعداد له ويقول: "من أراد سعادة الدارين، والفوز في الحياتين، ورضا رب الكونين، فعليه باتباع هدي سيد الثقلين{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب/21)، {وإن تطيعوه تهتدوا ۚ وما على الرسول إلا البلاغ المبين}(النور:54)

فماذا كان هدي رسول الله في شعبان؟
تقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، و يفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان)(متفق عليه).. زاد مسلم في روايته: [كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا].

وتنقل أم سلمة أيضا لنا هذا المعنى فتقول: [كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلا، بل كان يصومه كله](رواه الترمذي والنسائي).

وخلاصة القول أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصوم شعبان كله، لكن يكثر فيه من الصيام جدا حتى لا يكاد يفطر منه إلا اليوم أو اليومين، فيظن البعض من كثرة صيامه فيه أنه يصومه كاملا.

أسباب كثرة الصيام:
وقد سأله أسامة بن زيد رضي الله عن سبب كثرة صيامه فأجابه بقوله: [ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم](الترمذي والنسائي).

فبين أن سبب ذلك أمران:
الأول: غفلة الناس فيه؛ لأنه يقع بين شهر رجب الحرام ورمضان المبارك، فيهتم الناس فيهما ويغفلون عن شعبان، فأحب أن يكون هو في عبادة لله وقت غفلة الناس لما في ذلك من الثواب العظيم، والمنافع الكثيرة.

الثاني: أنه شهر يرفع فيه الأعمال، فأحب أن يكون وقت رفع عمله وعرضه على ربه في أحسن حال وأطيبه ليكون أدعى للقبول وأرجى للعفو والتجاوز إن كان هناك خلل أو نقص..

وقد ذكر أهل العلم لذلك أيضا تعليلين مشهورين:
أولهما: أنه ربما كان يقضي ما فاته من صيام تعود عليه في خلال العام، ففاته بسبب غزو أو جهاد أو سفر أو مرض، حتى لا ينقص عمله شيئا اعتاده، فهو الذي دلنا على أن أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه.

والآخر: أنه كان كالاستعداد لرمضان.. كما ذكر ذلك ابن رجب وجماهير من العلماء والأئمة فقال ابن رجب: "وقيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط" (لطائف المعارف:196).

الاجتهاد في شعبان
إن رمضان شهر الفيوضات الربانية، والمنح الإلهية، والفتوحات الرحمانية، جعل الله فيه من الخير ما لم يجعله في غيره، وبسط على مائدته من النعم والخيرات ما لا يتوفر في سواه، فهو النفحة الكبرى والمنة العظمى، والرحمة الجلى.. وإنما يستفيد المسلم من هذه الرحمات ويفوز من هذه النفحات بقدر تأهبه لاستقباله وإعداده لاستغلاله، وتجهيز النفس في شعبان وإعدادها للقيام بحق رمضان.

فشعبان إنما هو كالمقدمة بين يدي رمضان، ولهذا قال أبو بكر البلخي: "شهر رجب شهر الغرس، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، فمن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟
وقالوا أيضا: "مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر".

ومن مشهور قولهم: "لا رمضان لمن لا شعبان له". ومعناه: "أنه لا ينتفع برمضان تمام الانتفاع إلا من استعد له في شعبان تمام الاستعداد.
ولهذا قال ابن رجب: "ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن".
ونقل في "لطائف عن السلف أنهم كانوا يكثرون قراءة القرآن جدا في شعبان تأهبا منهم لرمضان.. قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء.. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء.. وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن".

وكذا كان بعض السلف يستحبون إخراج الزكاة والصدقات في شعبان حتى يفرغوا أهل الحاجة للعبادة في رمضان..

والمقصود: أن من أراد الانتفاع برمضان فعليه بحسن التأهب والاستعداد والإعداد له في شعبان، فيجعل من شعبان شهر تأهيل بدني ونفسي وروحي وقلبي وعلمي أيضا؛ فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهز برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
نسأل الله أن يبارك لنا في شعبان، وأن يبلغنا رمضان على أحسن حال. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة