- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:أركان الدعوة
في طريق الدعوة يقابل الدعاة والمرسلون أصنافا من المدعوين يختلفون في طبائعهم وشرائحهم ومستوياتهم وتوجهاتهم وتطلعاتهم.. وهذا يؤثر في مواقفهم من الدعوة والدعاة.. وقد تحدثنا في مقال سابق عن (الملأ) الذين هم علية القوم وسادتهم وأصحاب الوجاهة والرياسة فيهم.. وكيف أن هؤلاء هم في الحقيقة أعداء الرسل، وكيف أنهم ناصبوا الدعاة والمرسلين العداوة، ووقفوا في وجه دعوتهم، وكانوا هم ألد أعدائها..
الجمهور
وهناك صنف آخر من المدعوين وهم عموم الناس وجماهير القوم وأفراد المجتمع المرؤوسون.. وهم في الغالب الفقراء والضعفة ومتوسطو الحال وأشباههم.
وهؤلاء أسرع في قبول الدعوات، وهم في الغالب أتباع الرسل والرسالات؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون... فأجابه قائلا: وسألتك: أشراف الناس اتبعوه، أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسالتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم".
وقال قوم نوح لنبيهم عليه السلام: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين}(هود:27)، وقالوا: {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}(الشعراء:111).
وقالت ثمود عن أتباع نبيهم صالح عليه السلام: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ۚ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون . قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} (الأعراف:75ـ76).
وقالت قريش لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كان خيرا ما سبقونا إليه ۚ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}(الأحقاف:11).
قال الإمام ابن كثير: "ثم الواقع غالبا أن يتبع الحق ضعفاء الناس".
سبب سرعة استجابتهم:
لما كان جمهور الناس هم عامة المجتمع وغالبيتهم، وهم أناس يعيشون حياة عادية ليس عندهم من الموانع مثل تلك التي تمنع الملأ، ولا من المصالح التي يخافون ضياعها وفواتها، ولا يخافون سقوط جاه أو منزلة باتباع الحق، وإنما ربما يكون في اتباع الحق رفعة لهم دنيويا، وكذا نظرا لخلوهم عن الكبر المصاحب غالبا للرئاسة والوجاهة والغنى والمنصب.. كل ذلك كان سببا في سرعة استجابتهم للمرسلين والمصلحين وقبول دعوتهم.
ثم الدعوات في الغالب تأتي بالعدل والمساواة بين الخلق ومنع تحكم طائفة قليلة في كل الناس، واستعباد البشر لبعضهم، ورفع كل صور الظلم عن المظلومين، وأمور كثيرة يعاني العامة فيها ظلم السادة والقادة.. فدعوات الحق تنصفهم وتعيد لهم عزة نفوسهم وكرامتهم المسلوبة غالبا.
ثم تبقى غشاوات الجهل والعصبية ولكن ترفعها قناعات أصحاب الدعوات وصدق ما أرسل به المرسلون، وغلبة الحق على الباطل: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ۚ ولكم الويل مما تصفون}(الأنبياء:18).
تأثر الجمهور بالملأ:
الجمهور أكثر استعدادا لقبول الدعوة.. صحيح .. ولكن هل يتركهم الملأ لاختيار ما يريدون وما يرونه حقا؟
وبمعنى آخر.. هل يترك الملأ اتباعهم وأشياعهم وحزبهم وخدمهم ومحققي رغباتهم لينتقلوا إلى الطرف الآخر.. بسهولة؟
كلا.. ولكن يعملون على تضليلهم وغسل أدمغتهم وتسميم أفكارهم واستمالتهم إليهم وصرفهم عن قبول الدعوة والوقوف مع الحق.. تماما كما فعل فرعون مع قومه {فاستخف قومه فأطاعوه ۚ إنهم كانوا قوما فاسقين}(الزخرف:54).
قال ابن كثير: "استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له" (ابن كثير: 4/130).
والقرآن الكريم يبين لنا ما يكون حالهم يوم القيامة {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ۖ بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ۚ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ۚ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}(سبأ:31ـ33).
وقولهم لولا أنتم لكنا مؤمنين: أي لو تركتمونا لاختيارنا، ولولا أنكم كنتم تصدوننا عن الهدى لاتبعنا الرسل وآمنا بما جاءوا به.
فرد السادة بقولهم: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذا جاءكم؟ بل كنتم مجرمين: أي لم نمسك بكم ولم نرغمكم، ولكن دعوناكم فاستجبتم. واتبعتمونا بغير دليل ولا برهان، إنما وافقت دعوتنا لكم شهوات نفوسكم وهوى قلوبكم ومحبتكم للدنيا.
قالوا بل مكر الليل النهار: أي كنتم تمكرون بنا، وتغروننا وتمنونا بالأماني الباطلة وتلبسون علينا، وتقيمون لنا الشبه على أنكم على الحق، وتشوهون الحق حتى رأيناه باطلا.
والحق أن أصحاب الزعامات لبسوا عليهم، ولكن أيضا كانت نفوسهم تهوى اللهو واللعب، والدعة والراحة، وعقولهم مشغولة بغير الحق فوافقت شبهات الداعين الملبسين شهوات وأهواء المفتونين المضللين فاتبعوهم.. ولذلك لم يعذرهم الله يوم القيامة؛ لأنهم رأوا الحق ولم يطلبوه ولم يقبلوه، وعرفوا المحق ولم يتبعوه.. بل كانوا في معسكر الظالمين وحاربوا معهم الحق المبين، ولذلك عاقب الله الفريقين.. {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ۖ كلما دخلت أمة لعنت أختها ۖ حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ۖ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون}(الأعراف:38).
ويوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ۗ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ۖ وما هم بخارجين من النار}(البقرة:166ـ167).
ويلعن بعضهم بعضا ويسألون الله أن يعذب المضلين عذابا أليما: {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا}(الأحزاب:67ـ68).
أساليب الملأ في إضلال الجمهور:
أولا: التخويف والترهيب..
فقد قاموا بترهيب الناس بكل وسيلة، وخوفوهم إن هم اتبعوا الرسل والمصلحين بالسجن، والقتل، وأخذ الأموال، وتشويه السمعة، وتضييق الأرزاق، والفصل من العمل، والتنكيل بهم وبذويهم.. كما قال الملؤ من قوم فرعون لقائدهم: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ۚ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}(الأعراف:127).
والنتيجة الطبيعية لكل هذا التخويف والترهيب والتنكيل هي انفضاض الناس عن دعوات الخير خوفا من بطش الباطشين: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ۚ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}(الأعراف:83)... نعم قد يبقى جماعة تتمسك بالحق وتعض عليه بالنواجذ ولكن الغالبية تتأثر..
ثانيا: الإغراء والترغيب
بالمال أو الجاه والمناصب أو حتى بالشهرة، أو بتمشية الحال، وتحقيق الرغبات والآمال، وقد كانوا عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرئسوه عليهم، وأن يجمعوا له من المال ما شاء حتى يصير أغناهم، أو حتى يزوجوه من النساء ما شاء من أجمل بنات قومه، أو حتى يعالجوه إن كان به مرض على نفقة الدولة.. وأكثر الناس لا يصبرون على هذا الإغراءات ويسقطون في هذا المستنقع، فيبيع أحدهم ذمته ومروءته ومبادئه ويبيع الحق بثمن بخس.
ثالثا: الشبهات
ومن وسائل المفسدين في إضلال المدعوين نشر الشبهات حول الدعوة والدعاة واتهامهم ـ كذبا وزورا وبهتانا ـ بما يصرف الناس عنهم وعن دعوتهم.. فمن ذلك:
. اتهام الرسل بالسحر والجنون {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون . أتواصوا به ۚ بل هم قوم طاغون}(الذاريات:52ـ53).
. اتهامهم بأنهم اصحاب مصالح ومطامع في الحكم والرياسة: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين}(يونس:78).
. اتهامهم بأنهم ممولون من جهات خارجية تريد إسقاط البلاد ونشر الفتنة فيها: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون}(الفرقان:4).
. التعلل ببشرية الرسل وأن هذا من العجب وكان الأولى أن يبعث الله ملكا رسولا {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا}(الإسراء:94).
فرد عليهم سبحانه بقوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسول}(الإسراء:95). وقد وردت في هذا الباب آيات كثيرة، للرد على هذه الشبهة الباهتة.
. تعللهم بأنهم أفضل من الرسل وأغنى وأحق بالرسالة منهم.. كما في قولهم: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ۙ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا . أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ۚ وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}(الفرقان:7ـ8). وفي سورة سبأ: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين . قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(سبأ:34ـ36).
. محاولة إقناع الناس بأن وقوفهم في وجه الدعاة والمرسلين إنما هو حماية لعقيدة الناس ودينهم: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه ۖ إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}(غافر:26). وفي سورة طه: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى}(طه:63).
. زعمهم بأنهم أولى بالحق من الرسل وأتباعهم {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ۚ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}(الأحقاف:11).
رابعا : استعمال السحرة والكهنة ومشايخ السلاطين في تضليل الخلق وتشويه الدعاة والرسل، ومحاولة التلبيس على الناس بأن ما عليه هؤلاء باطل ومخرقة، وأن ما عليه أسيادهم هو الطريق القويم والحق المبين والسراط المستقيم.
وكان من آثار كل ذلك القصف الذي لا يهدأ وآلات الإعلام التي لا تتوقف والتلبيس الذي يخيل على من لا علم له ولا عقل ولا فهم، أن اتبعهم فئام كثير من جماهير الناس، وانحازوا إلى حدهم وصفهم، وكانوا معهم في ضلالهم ومحاربة الدعوة وأصحابها..
فإذا كان يوم القيامة ألحق الله كلا من الفريقين بالآخر وألقاهم في النار، ولم يقبل من الذين استضعفوا تعللهم بأنهم اتبعوا الأكابر وانساقوا وراء ضلالهم وشبهاتهم.. لا، فالحق واضح وعليه نور، والباطل أظلم من الليل البهيم. والله أعطانا العقول لنستخدمها في معرفة الحق من غيره، لا لنسلمها لفلان أو علان ثم نسير وراءه كالعميان، ولا يقبل عذر من إنسان اتبع أحدا بغير هدى، وإنما لمجرد أنه الرئيس أو الزعيم أو الكبير .. لا عذر.. {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون}(الروم:57).
وتبقى طائفة ينير الله بصائرهم ويهدي للحق قلوبهم، ويوفقهم لقبوله والصبر على الأذى فيه، وهؤلاء هم أتباع الرسل أهل الحق وأنصار الهدى.. يبتلون في أول الأمر ثم تكون لهم العاقبة في الدنيا، والجنة في الآخرة.. {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ۖ ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}(غافر:51ـ52).