الطيرة والفأل

0 48

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع هداه،أما بعد:
اعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيب غراب يرد قضاء أو يدفع مقدورا فقد جهل.
وقد روى البخاري ومسلم  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر . فالعدوى ما يظنه الناس من تعدي العلل والأمراض فأخبر أنها لا تعدي، (وهذا نفي لما كانوا يعتقدونه من مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، وأنها تؤثر بطبعها، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الله عز وجل هو الذي يقدر المرض وينزل الداء). فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها! فقال - صلى الله عليه وسلم -: فمن أعدى الأول؟.

وأما الهامة فهو ما كانت العرب في الجاهلية تعتقده من أن القتيل إذا طل دمه فلم يدرك بثأره صاحت هامته في القبر: اسقوني. قال الزبرقان بن بدر يعنيها:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وقال إبراهيم بن هرمة:
وكيف وقد صاروا عظاما وأقبرا ... يصيح صداها بالعشي وهامها
تفانوا ولم يبقوا وكل قبيلة ... سريع إلى ورد الفناء كرامها
(وقيل: إن الهامة هي اسم لطائر يطير بالليل كانوا يتشاءمون به، وكانوا يعتقدون أن روح القتيل إذا لم يؤخذ بثأره صارت طائرا يقول: اسقوني اسقوني، حتى يثأر له فيطير، وقيل: هي البومة، قالوا: إذا سقطت على دار أحدهم وقعت فيها مصيبة، وهذا من المعتقدات الجاهلية التي أبطلها الإسلام).

وأما الصفر فقيل: هو الشهر المعروف، كانوا يتشاءمون به، وهو شهر من شهور الله، يقع فيه الخير والشر، ولا شيء يقع إلا بقدر الله. وقيل: إن صفر هو كالحية يكون في الجوف يصيب الماشية والناس، وهو أعدى عندهم من الجرب. وفيه يقول الشاعر:
لا يمسك الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
(والشرسوف هو أعلى الضلع من جهة البطن).
وقد كانت الفرس أكثر الناس طيرة. وكانت العرب إذا أرادت سفرا نفرت أول طائر تلقاه فإن طار يمنة سارت وتيمنت، وإذا طار يسرة رجعت وتشاءمت. وحكى عكرمة قال: كنا جلوسا عند ابن عباس - رضي الله عنهما -، فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم: خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر.
وقال لبيد:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع

واعلم أنه قلما يخلو من الطيرة أحد لا سيما من عارضته المقادير في إرادته، وصده القضاء عن طلبته، فهو يرجو واليأس عليه أغلب، ويأمل والخوف إليه أقرب. فإذا عاقه القضاء، وخانه الرجاء، جعل الطيرة عذر خيبته، وغفل عن قضاء الله عز وجل ومشيئته، فإذا تطير أحجم عن الإقدام ويئس من الظفر وظن أن القياس فيه مطرد وأن العبرة فيه مستمرة. ثم يصير ذلك له عادة فلا ينجح له سعي، ولا يتم له قصد.
فأما من ساعدته المقادير ووافقه القضاء فهو قليل الطيرة لإقدامه ثقة بإقباله وتعويلا على سعادته، فلا يصده خوف ولا يكفه حزن، ولا يئوب إلا ظافرا، ولا يعود إلا منجحا؛ لأن الغنم بالإقدام، والخيبة مع الإحجام، فصارت الطيرة من سمات الإدبار واطراحها من أمارات الإقبال.
فينبغي لمن مني بها وبلي أن يصرف عن نفسه الوساوس ودواعي الخيبة وذرائع الحرمان، ولا يجعل للشيطان سلطانا في نقض عزائمه ومعارضة خالقه. ويعلم أن قضاء الله تعالى عليه غالب، وأن رزقه له طالب، إلا أن الحركة سبب فلا يثنيه عنها ما لا يضر مخلوقا ولا يدفع مقدورا. وليمض في عزائمه واثقا بالله تعالى إن أعطي وراضيا به إن منع.
وقيل في منثور الحكم: الخيرة في ترك الطيرة.

وقد روي أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا، وكثرت فيها أموالنا، ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا، وقل فيها عددنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذروها ذميمة رواه أبوداود وحسنه الألباني . وليس هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - على وجه الطيرة ولكن على طريق التبرك بما فارق وترك ما استوحش منه إلى ما أنس به. (والمعنى: اتركوا الدار الثانية حال كونها مذمومة؛ لأن هواءها غير موافق لكم؛ لتتخلصوا من سوء الظن ورؤية البلاء، وإنما أمرهم بتركها وهم لها كارهون؛ لما وقع في نفوسهم من شؤمها، وليزول عنهم ما يجدونه من كراهيتها، وليس لأنها سبب فيما حدث لهم؛ فإن كل شيء بقدر الله ومشيئته، فصان بذلك اعتقادهم عن الباطل الذي قد يعلق به، ولتنقطع مادة ذلك الوهم، ويزول ما كان خامرهم من الشبهة فيها).

وأما الفأل ففيه تقوية للعزم وباعث على الجد ومعونة على الظفر. فقد تفاءل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته وحروبه. وروى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل". قالوا: وما الفأل؟ قال: "كلمة طيبة". (فالكلمة الطيبة الصالحة تبعث الاطمئنان والراحة للإنسان، لا سيما في أوقات الكرب، فتعطيه بشرى لرفع الكرب).
وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا طيرة من التطير، وهو التشاؤم، فلا يظن أحد أن ما جعله سببا للتشاؤم، سواء كان مخلوقا، أو مكانا، أو زمانا؛ هو السبب فيما يحدث له، بل كل شيء بقدر الله عز وجل، ويعجبني  الفأل، فاستفسر الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى الفأل، فقال لهم: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم، فتجعله يحسن الظن بربه، وتشرح صدره، وتريح فؤاده، فالفأل يساعد الإنسان على السعي في قضاء مهماته وإتمامها.
وفي الحديث: النهي عن التشاؤم بالأحداث والزمان والمكان؛ لأن كل شيء بقدر الله.
وفيه: التوجيه إلى التفاؤل والاستبشار بالكلمة الطيبة.
فينبغي لمن تفاءل أن يتأول الفأل بأحسن تأويلاته ولا يجعل لسوء الظن على نفسه سبيلا.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل يكون من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء؛ فلذلك كرهت.
وقال الحليمي رحمه الله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل ؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق. والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
وقال الطيبي رحمه الله تعالى: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطير هو أن الشخص لو رأى شيئا فرآه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك، وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم.
نسأل الله تعالى أن يهيء لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعل لنا من أمرنا يسرا ، وأن يجعل عاقبة أمرنا خيرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
- كتاب أدب الدنيا والدين
- الدرر السنية

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة