ابن حميدو.. بين السينما والحقيقة

0 242

أمة الإسلام أمة ولادة.. لا تكاد تخلو من بطل فذ يصلح أن يكون أنموذجا يحتذى، ومثلا للمسلمين يقتدى.. والمتأمل في تاريخ أمتنا يجد هذا في كل زمن وفي كل فترة.. لم يخل التاريخ يوما من إمام وعلم وقدوة.. ولكن تاريخ هذه الأمة يتعرض للتشويه المتعمد لإقعاد الهمم، وتحطيم المعنويات، ولكي لا يبقى إلا أقزام يراد لها أن تتشبه وتقتدي بهم حتى تبقى دائما قزمة صغيرة.

يقول الأستاذ عبد العزيز العويد:
خلال تأليفي لكتاب "صناع التاريخ خلال ثلاثة قرون".. وجدت أن كثيرا من رجال هذه الأمة في القرون الأخيرة استطاعوا أن يشابهوا الأولين في كثير من الميادين، ولكننا بحاجة إلى قراءة سيرهم، والسير على منهاجهم.

من هؤلاء العظماء الذين تعرضوا للإهمام، بل للتشويه والمسخ.. البحارة المسلم الكبير محمد بن علي المعروف بـ "ابن حميدو".. تاريخ عظيم، وهمة عالية، وجهد رائع، أرغم أنوف أهل الكفر، وكتب الرفعة للبحرية العثمانية والجزائرية في البحر المتوسط خلال عدة عقود من الزمن.

ابن حميدو المسخ
في عام 1957 للميلاد انتجت السينما المصرية فيلما شهيرا حمل اسم هذا المجاهد الكبير "ابن حميدو"، فكان فيلما كوميديا من بطولة الممثل الكوميدي الشهير إسماعيل يس، ويكفي أن تعرف أن الفيلم بطولة اسماعيل يس لتعرف المحتوى الذي سيقدم.. ومدى التشوية الذي يمكن أن يلحق بهذه الشخصية الفذة.. وقد كان.

كان ابن حميدو السينما غير ابن حميدو الذي تعرفه الأمة، وكأنه تشويه متعمد لتاريخ رجل استطاع أن يضحك الأمة بحق من خلال الواقع لا الكوميديا، وأن يعيد لها شيئا من مجدها، واستطاع أن يكسب للأمة ويكتب لها مجدا عظيما يسطر في صفحات التاريخ بمداد من نور.

من هو ابن حميدو الحقيقي؟
إنه محمد بن علي الشهير بابن حميدو الجزائري المسلم..
ولد ابن حميدو في حي العضبة في الجزائر في حوالي سنة 1770للميلاد، أي سنة 1373 من الهجرة، في أسرة بسيطة.. كان أبوه خياطا بسيطا، وكان يعد ابنه ليرث مهنة أبيه، ولكن طموح الابن كان أكبر من ذلك، كان أبوه يريد منه أن يكون خياطا، وكان هو يطلع على بطولات القوات العثمانية البحرية التي كانت تجوب البحار، وتحقق الانتصارات التي عاشتها الجزائر وانتشت بها الأمة المسلمة كلها، والتي كان يحققها البحار المسلم الكبير "خير الدين برباروسا".

كان محمد بن علي حميدو يريد أن يكون رئيسا بحريا وقائدا كـ "برباروسا" يجوب البحار ويحقق مثل ما كان يحقق خير الدين؛ فقد كان هو مثله الأعلى.

ومن أجل تحقيق هذه الأماني التحق بالفعل بالبحرية العثمانية التي كانت موجودة في الجزائر، وبدأ يترقى فيها ويجتهد حتى صار ضابطا من أشهر الضباط البحريين للدولة العثمانية في الجزائر وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين.

كان صعود ابن حميدو وتصعيده على إمارة البحرية يتوافق مع قيام الثورة الفرنسية في الغرب، ومجيئ نابليون للحكم، وما أعقب ذلك من فوضى عارمة في أوروبا كلها، فانتهز ابن حميدو هذه الفرصة لتقوية الأسطول الجزائري، أو بالأحرى تقوية أسطول الخلافة العثمانية الإسلامية في الجزائر.. حتى سطع نجمه واستطاع أن يصل بعملياته إلى اسكتلندا والمحيط الأطلسي.

إخضاع السفن الأمريكية
في هذا الوقت في أواخر القرن الثامن عشر لم تكن أمريكا هي القوة المهيمنة على العالم كما هو اليوم، وإنما كانت حديثة عهد باستقلال عن بريطانيا.. ولكن كان لديها بعض المراكب والسفن البحرية التي كانت تجوب بعض البحار ومنها المياة الإقليمية الجزائرية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية.

لم يكن وجود هذه السفن مما يرتاح ابن حميدو له، بل كان يعد ذلك تهديدا للجزائر وللخلافة.. فقام بالاستيلاء على أحد عشر سفينة من السفن الأمريكية.. مما أحدث ضجة ضخمة في البحرية الأمريكية والأسبانية.

حاولت أمريكا جاهدة أن تسترد هذه السفن، لكن نظرا لحداثة استقالالها وعدم امتلاكها قوة بحرية رادعة لم تستطع.. واضطرت راغمة إلى توقيع اتفاقية مع الجزائر أو الدولة العثمانية في سنة 1795م.. تدفع بموجبها أمريكا ضريبة للجزائر قدرها 92 ألف دولار أمريكي ذهبا، لقاء السماح لسفنها بحرية المرور والحماية في البحر المتوسط، وتضمنت هذه المعهدة اثنين وعشرين مادة وكتبت باللغة العثمانية، وهذا كان له دلالته، مما رفع من أسهم البحرية العثمانية والجزائرية في ذلك الوقت.

ولما جاء الرئيس الأمريكي "جيفرسون" إلى سدة الحكم في أمريكا رفض دفع الضريبة المقررة .. فقامت البحرية الجزائرية بالرد والاستيلاء على السفن الأمريكية العابرة في البحر المتوسط، فقامت الولايات المتحدة بإرسال قطعا بحرية إلى البحر المتوسط لأجل الانتقام، وكانت المهمة المكلفة بها هي إجبار الجزائر على تحرير السفن، وتقديم اعتذار للولايات المتحدة، واسترجاع الأسرى الأمريكيين، وإنهاء دفع الضريبة المفروضة على السفن الأمريكية في المتوسط، والسماح لها بحقوق المرور. وكان ذلك في عام 1812 للميلاد.

وكان جيفرسون ـ والأمريكان معه ـ يرون معاهدة 1795 مع العثمانيين وابن حميدو ودفع الضريبة لهم نوعا من الذل والخضوع للعثمانيين وابن حميدو الذي استطاع أن يفرض على مراكبها أن تكون خاضعة لكل الشروط التي تضعها القوة العثمانية في ذلك الوقت.

استشهاد البحار المجاهد
حتى جاءت سنة 1815، وقامت أمريكا بالتعاون مع البرتغال في تشكيل قوة بحرية موحدة، وهاجموا المراكب البحرية الجزائرية برئاسة ابن حميدو، ودارت معارك طاحنة، استشهد خلالها البطل البحار الكبير ابن حميدو، عندما ضربت السفينة التي كان عليها بالمدافع. فمات رحمه الله شهيدا حميدا مجاهدا في سبيل الله بعد أن شكل أسطورة تاريخية كبيرة اسمها القطان البحري العثماني الجزائري المسلم "ابن حميدو".

هذا أنموذج من نماذج هذه الأمة الرائعة الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة، وأحسن القصص، وأجمل المواقف، وحازوا قصب السبق في الميادين المختلفة.

ورغم أن أكثر الناس في العالمين العربي والإسلامي لا يعرفون سيرة حميدو فارس البحر، إلا أن هناك ضاحية في غرب العاصمة الجزائر تحمل اسمه.. وقد قام السلاح البحري الجزائري بإطلاق اسمه على إحدى الفرقاطات البحرية الهامة في سلاح البحر الجزائري، وهناك أيضا تمثال في ساحة الشهداء في قلب العاصمة الجزائرية يجسد صورة هذا الربان المسلم الشجاع.

فرحم الله ابن حميدو.. ورحم الله كل بطل مسلم.. وأعاد الله لهذه الأمة أمجادها.. آمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
د.عبد العزيز العويد ـ بتصرف يسير.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة