التفاضُل بين الأنبياءِ والرُسُل

0 684

الإيمان برسل الله وأنبيائه جميعا من مسلمات الدين، وأركان العقيدة، فلا يصح إيمان العبد إلا به، والأدلة متواترة على تأكيد ذلك، وهو أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
والمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، لا يفرقون بين أحد منهم، ويعتقدون بكفر من أنكر نبوة من أثبت الله نبوته، لأن الكفر برسول أو نبي واحد كفر بجميع الرسل، قال الله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}(البقرة:285)، قال الطبري: "والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم.. ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه". وقال ابن تيمية: "والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم".

والأنبياء والرسل جميعا أمناء صادقون، هداة مهتدون، وبالبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدون، وأنه لا يبلغ منزلتهم أحد من الخلق مهما بلغ من الصلاح والتقوى، إذ الرسالة اصطفاء من الله يختص الله بها من يشاء من خلقه، ولا تنال بالعمل والاجتهاد، قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير}(الحج:75). قال السعدي: "أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق". وأهل السنة يؤمنون ويحبون ويوقرون جميع انبياء الله ورسله، ولا يعادون أحدا منهم، قال الله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}(البقرة:98). قال ابن كثير: "ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل". وأنبياء الله ورسله لهم علينا حقوق كثيرة، لما رفعهم الله إليه من الدرجات الجليلة، وما شرفهم به من المهمات النبيلة، وما اصطفاهم به من تبليغ وحيه وشرعه. ومن جملة هذه الحقوق والواجبات: الإيمان بهم وتصديقهم فيما بعثوا وأرسلوا به، وكذلك محبتهم وتوقيرهم جميعا. ومع ذلك جاءت الأدلة بأنهم ليسوا جميعا في درجة واحدة، وإن استووا في أنهم جميعا أفضل البشر.

التفاضل بين الأنبياء والرسل:
الرسول أفضل من النبي بالإجماع، قال ابن كثير: "ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء".
وأهل السنة يعتقدون تفاضل رسل الله فيما بينهم، وأنهم ليسوا في درجة واحدة، بل فضل الله بعضهم على بعض، قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات}(البقرة: 253). وأفضل الأنبياء والرسل هم أولو العزم منهم، وهم: محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، والوارد ذكرهم في قول الله تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}(الأحقاف:35)، وجاء في آية أخرى التصريح بأسمائهم، قال الله سبحانه: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}(الأحزاب:7). وأفضل أولي العزم بلا خلاف نبينا محمد صلى الله عليه سلم، ثم إبراهيم على الراجح من أقوال أهل العلم، واختلف في ترتيب الثلاثة الباقين، فمن أهل العلم من يتوقف عن التفضيل بينهم، ومنهم من قطع بأفضلية موسى بعد إبراهيم، وتوقف في التفضيل بين نوح وعيسى، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. قال ابن كثير في تفسيره: "ولا خلاف أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور". وقال الشيخ ابن عثيمين: "وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة) متفق عليه، وصلاتهم خلفه ليلة المعراج، وغير ذلك من الأدلة. ثم إبراهيم، لأنه أبو الأنبياء وملته أصل الملل، ثم موسى، لأنه أفضل أنبياء بني إسرائيل، وشريعته أصل شرائعهم، ثم نوح وعيسى لا يجزم بالمفاضلة بينهما، لأن لكل منهما مزية".

قال عبد الله بن مسعود: "إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمدا أكرم الخلق على الله، ثم قرأ: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}(الإسراء:79). وقال تبارك وتعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}(الحجر:72). قال ابن كثير: "أقسم الله تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع وجاه عريض.. عن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره".
وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: "إن أكرم خليقة على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقيل له: رحمك الله فأين الملائكة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي وهل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض، وخلق السماء، وخلق السحاب، وخلق الجبال، وخلق الرياح، وسائر الخلائق، وإن أكرم الخلائق على الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم". وذكر ابن تيمية أثر عبد الله بن سلام رضي الله عنه ثم قال: "وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم"، وقـال: "وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته".
وقال القاضي عياض: "تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وأفضل الأنبياء".
وقال ابن كثير: "فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قطعا جزما لا يحتمل النقيض".
وقال البجيرمي في حاشيته على الخطيب: " أفضل الخلق على الإطلاق نبينا إجماعا، ثم الخليل، ثم الكليم (موسى)، ثم عيسى، ثم نوح، ثم باقي المرسلين، ثم الأنبياء". وقال ابن عليش المالكي: "أجمع المسلمون على أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من باقي المخلوقين من الإنس والملائكة والجن، وشاعت أفضليته وذاعت وصارت كالمعلومات الضرورية حتى عند العوام".
وقال السيوطي: "ونعتقد أن أفضل الخلق على الإطلاق حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، يليه إبراهيم في التفضيل، فهو أفضل الخلق بعده نقل بعضهم الإجماع على ذلك".

فائدة:
ـ من منهج واعتقاد أهل السنة: اعتقاد فضل الرسل على الأنبياء، وفضل أولي العزم على بقية الرسل، وفضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك لقيام الأدلة الصريحة الصحيحة على ذلك.. ومع ذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن التفضيل بين الأنبياء، ونهيه عن تفضيله خاصة على بعض الأنبياء. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (..لا تفضلوا بين أنبياء الله. ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى عليه السلام) رواه مسلم. وفي هذا إشكال ظاهري، وقد خرج العلماء وجوها كثيرة من القول في توجيه ذلك النهي وإزالة هذا الإشكال الظاهري.
قال النووي: "أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر".
وقال القاضي عياض: "المراد بالنهي المنع من التفضيل من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها فهم متساوون فيها، وإنما التفاضل بالخصائص ونحوها". وقال القرطبي: "وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآيات والأحاديث من غير نسخ". وقال أيضا ـ القاضي عياض ـ: "المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى توهم النقص في المفضول، أو الغض منه، والإزراء به". وقال: "ذكر أهل العلم أنه إنما خص يونس عليه السلام بالذكر لما يخشى على من سمع ما قصه الله علينا من شأنه وما كان من قلة صبره، ونهي نبينا عليهما الصلاة والسلام عن أن يكون مثله، من أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يونس عليه السلام لسد هذه الذريعة".
وقال الخطابي في "معالم السنن": "معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم وبفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم فقال عز وجل {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات}(البقرة:253)".
وقال النووي في شرح مسلم: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين أنبياء الله) جوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به. والثاني: قاله أدبا وتواضعا. والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول. والرابع: إنما نهي عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث. والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى، ولا بد من اعتقاد التفضيل، فقد قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}(البقرة:253)".
وقال ابن حجر: "في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع".
ـ ويكفي في الجواب على من يقول بعدم المفاضلة بين الأنبياء والرسل والقول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم. قال الصنعاني: "(فضلت) أي: فضلني الله.. (على الأنبياء) الذين هم أشرف خلق الله تعالى. (بست) لا ينافي ما يأتي من قوله في حديث آخر(بخمس)". وقال ابن حجر: "ووردت أحاديث أخر بخصائص أخرى، وطريق الجمع أن يقال لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله".

أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق عامة والأنبياء والرسل خاصة، هي أفضلية قطعية وليست ظنية، وقد نقل الإجماع على ذلك أهل العلم. وليس في هذا القول مبالغة، بل هو مقتضى ظاهر الكثير من الأدلة والنصوص من الكتاب والسنة التي بينت عظم قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، ورفعة مكانته، وذلك من خلال الفضائل الجليلـة والخصائص الكريمة التي خصه الله عز وجل بها، مما يدل على أنه أعظم الخلق، وأفضل الأنبياء والرسل، وذلك من فضل الله عليه، قال الله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}(النساء:113). وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}(البقرة:253)". قال السعدي: "يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة