إني جاعلٌ في الأرض خليفة

0 470

هذه الآية الثلاثون في سورة البقرة، أطول سور القرآن على الإطلاق، وموضوع سورة البقرة ومحورها الرئيس؛ الحديث عن الخلافة في الأرض، ولذا نجد أن أول ما تطالعنا عليه السورة ذكر أصناف البشر الثلاثة: (المؤمن، والكافر والمنافق)، والخليفة في الأرض واحد من تلك الأصناف، فإما أن يكون الخليفة مؤمنا بالله، خليفة في الأرض بالعدل، وإما أن يكون كافرا بالله متجبرا، وإما أن يكون بين هذا وذاك، منافقا مراوغا ماكرا، وليس من المصادفة بعد ذلك أن تأتي في القرآن ثلاث سور بأسماء هذه الأصناف، ففي القرآن سورة المؤمنون، وسورة المنافقون، وسورة الكافرون.

 هذه الآية: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] وما تلاها من الآيات تطالعنا على قصة استخلاف آدم عليه السلام في الأرض، بعد أن أعطي المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة، ويقوم بها، وذلك في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، ولكن إيراد هذه القصة، قصة استخلاف آدم؛ ليست هي الغاية التي تريد السورة أن تطالعنا عليها، أو أن توصلنا إليها، وإنما جاء ذكر هذه القصة تمهيدا ومقدمة بين يدي الحديث عن المقصد الأسمى والأعلى للسورة، ولعظمة هذا المقصد وأهميته؛ مهدت له السورة بذكر هذه القصة، وبذكر غيرها أيضا.

لقد جعل الله تعالى النبوة بعد إبراهيم عليه السلام في بنيه وذريته فقال: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27]، ثم اختار الله تعالى إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام من أبناء إسحاق بن إبراهيم- فكانت النبوة في ذريته بني إسرائيل، وكانت سنة الله تعالى في بني إسرائيل لا تتبدل، ولا تتغير، فإذا ما كانوا على أمر الله تعالى؛ مكن لهم في الأرض، وجعل زمام الأمور بأيديهم، ومتى زاغوا وبدلوا سلط عليهم من يذلهم، وينزع قيادة البشرية من أيديهم؛ إلى أن يرجعوا إلى أمر الله تعالى.

ولقد سكنت طوائف من بني إسرائيل من اليهود أطراف المدينة المنورة، جاؤوا إليها من الشام ومصر يطمعون أن يكون ذلك النبي الخاتم منهم؛ ولـما بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من العرب؛ نقموا عليه وحاربوه، ولم يسمعوا لدعوته؛ بل كانوا أول كافر به من بني إسرائيل، فكان ذلك إيذانا أن تنزع منهم قيادة الخلافة في الأرض، وتجعل في محمد وأمته صلى الله عليه وسلم.

جاءت سورة البقرة فطالعتنا على استخلاف بني إسرائيل في الأرض، وتمكينهم فيها، ثم نكولهم عن أمر الله تعالى، وكفرهم بنبيه الخاتم، محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم عزلهم عن هذه الخلافة، وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة، الوافية بعهد الله، وهذه قضية كبرى في تاريخ البشرية والاستخلاف، تستحق أن تحتفي بها أطول سور القرآن؛ بل وأن يحتفي بها القرآن كله؛ ومن هنا اقتضى ذلك أن يمهد لهذه القضية ولهذا المقصد بآيات وقصص من تاريخ الاستخلاف، فكان ذكر قصة استخلاف آدم في الأرض مقدمة لذلك {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30].

 قد أطلع القرآن بهذه القصة قيادة البشرية الجديدة على كرامة الإنسان على الله تعالى إذ جعله خليفة في أرضه؛ فصار سيد هذه الأرض، وأن كل شيء فيها خلق لأجله؛ ولذا قال له: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا} [الجاثية: 13] وطالعهم من ورائها أيضا على العقبات المتكررة التي واجهت البشرية منذ بدء الاستخلاف في الأرض وما تزال؛ ذكر لهم الشجرة المحرمة في هذه القصة، والشيطان ووسوسته باللذة، والعهد ونسيانه بالمعصية، ثم الندم وطلب المغفرة؛ هذا وغيره لتتولى القيادة الجديدة أمر الاستخلاف في الأرض وهي مزودة بتلك التجارب، التي ستتعرض لمثلها طويلا، ولتستعد بعدها للمعركة الدائبة، فتتعظ وتحذر.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة