أُمِّيَتَه مِنْ دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

0 346

شاء الله عز وجل بحكمته أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب، والقرآن الكريم سجل هذه الحقيقة ليجعلها أمارة على صدقه، ودليلا من دلائل نبوته، قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52)، وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (العنكبوت: 48)، قال ابن كثير في تفسيره: "أي: قد لبثت في قومك ـ يا محمد ـ ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب. وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر}(الأعراف:157). وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا.. لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم". وقوله: {إذا لارتاب المبطلون} أي: لو كنت تحسن الكتابة لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} (الفرقان:5)، قال الله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما}(الفرقان:6)". 
وقال السعدي: "ومما يدل على صحته، أنه جاء به هذا النبي الأمين، الذي عرف قومه صدقه وأمانته ومدخله ومخرجه وسائر أحواله، وهو لا يكتب بيده خطا، ولا يقرأ خطا مكتوبا، فإتيانه به في هذه الحال، من أظهر البينات القاطعة، التي لا تقبل الارتياب، أنه من عند الله العزيز الحميد، ولهذا قال: {وما كنت تتلو} أي: تقرأ {من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا} لو كنت بهذه الحال {لارتاب المبطلون}".

من الدلائل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقرأ كتابا، ولم يكتب سطرا، ولم يقل شعرا، ولم يرتجل نثرا، ومع ذلك فالقرآن الكريم معجزته الخالدة، الذي تحدى به صلى الله عليه وسلم العرب، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، فعجزوا أن يأتوا بسورة من مثله، قال الله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}(البقرة:23)، وقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (يونس:38).. ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه مع أميته كان يمتاز بالفصاحة والبلاغة، وقد زكى الله تعالى قوله ونطقه فقال: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم 4:3). فكان صلوات الله وسلامه عليه صاحب الحكمة البالغة، واللسان المبين، الذي فضله الله عز وجل على غيره من الأنبياء والمرسلين، بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان يتكلم بالكلام الموجز، القليل اللفظ الكثير المعاني، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة، وبدائع الحكم ومحاسن العبارات، التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده، فكان أفصح الناس، وأعذبهم كلاما، وأحلاهم منطقا، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأرواح، شهد له بذلك كل من سمعه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم. قال العز بن عبد السلام: "ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصارا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته".
وعن فصاحته وبلاغته صلى الله عليه وسلم رغم أميته يقول القاضي عياض: "وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف .. أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله".

فائدة:
رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب إلا أنه جاء بدين يقضي على الأمية والجهل، ويدعو إلى العلم والمعرفة، ويرفع قيمة العلم والعلماء، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة منذ أول لحظة نزل فيها الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، فأول كلمة كانت الأمر بالقراءة، قال الله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق :1)، وفي ذلك إشادة بالعلم وفضله، فللعلم منزلته في بناء الأفراد والشعوب والأمم، ومازال الإسلام يحث على العلم ويأمر به، ويرفع درجة أهله، ويميزهم على غيرهم، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(المجادلة:11)، وقال سبحانه :{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}(الزمر:9). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود .

لقد شاء الله عز وجل بحكمته أن يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم بليغا دون أن يخط حرفا بيمينه، لتقوم المعجزة في شأنه صلى الله عليه وسلم أولا، وشأن ما بعثه به والكتاب الذي معه ثانيا، ومما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا، وظل على ذلك إلى أن بعث وهو أمي، وهذا كمال في حقه ومعجزة من معجزاته الشريفة، قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة: 2). ومع كونه أميا فقد أتى بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم لا ينقص عنهم شيئا، يقول القاضي عياض: "ليست المعجزة مجرد كونه أميا، فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولا كذلك، ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون". ويقول الرازي: "أجل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأشرفها أنه كان رجلا أميا" إلى أن يقول: "ظهور هذه العلوم العظيمة عليه مع أنه كان رجلا أميا لم يلق أستاذا، ولم يطالع كتابا من أعظم المعجزات".. ومن ثم فأميته صلى الله عليه وسلم كمال في حقه، مع أنها في غيره وصف نقصان، وهي كذلك دليل من دلائل نبوته، وفيها رد على ما أثاره بعض المستشرقين من شبهة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالأحبار والرهبان من اليهود والنصارى مثل بحيرا الراهب.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة