أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر

0 1080

 الشرك الأصغر هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة ‏للوقوع فيه، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركا، وهو غير مخرج من الإسلام، بل الواقع فيه لا يزال في دائرة الإسلام.. والشرك الأصغر له صور وأنواع كثيرة، أولا: قولي: وهو ما كان باللسان، ومما يدخل فيه: الحلف بغير الله، وقول: "ما شاء الله وشئت"، أو: "أنا متوكل على الله وعليك"، وإسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل، مثل أن يقول: "لولا وجود فلان لحصل كذا"، وقول الرجل: "لولا الله وفلان".. ثانيا: فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه: إتيان الكهان وتصديقهم، والاستعانة على كشف أمر غيبي أو مستقبلي بالعرافين والمنجمين والرمالين وغيرهم من المشعوذين، وكذلك لبس وتعليق التمائم، لدفع البلاء أو رفعه.. ثالثا: قلبي: ويدخل فيه: الرياء.. قال ابن القيم في "مدارج السالكين" في حده للشرك الأصغر: "وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله تعالى، وقول الر جل ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا، وقد يكون شركا أكبر بحسب قائله ومقصده". وصور الشرك عديدة يصعب حصرها. قال ابن القيم: "والشرك أنواع كثيرة، لا يحصيها إلا الله، ولو ذهبنا نذكر أنواعه لاتسع الكلام أعظم اتساع".

والرياء في اللغة مشتق من الرؤية وهي: النظر، يقال: راءيته، مراءاة، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويثنوا عليه ويعظم في أنفسهم. قال ابن حجر: "الرياء هو إظهار الشخص العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدونه عليها". وقال القرطبي: "وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس". ومع أن الواقع في الشرك الأصغر ـ والذي منه الرياء ـ لا يخرج من الإسلام، ولا يخلد في النار، إلا أنه ينبغي الحذر منه كل الحذر، والبعد عنه كل البعد، وقد يتهاون بعض الناس بهذا النوع لتسميته شركا أصغر، وهو إنما سمي أصغر بالنسبة للشرك الأكبر. قال الشيخ حافظ الحكمي: "والنوع الثاني من نوعي الشرك: شرك أصغر، لا يخرج من الملة، ولكنه ينقص ثواب العمل، وقد يحبطه إذا زاد وغلب، وهو الرياء اليسير في تحسين العمل، فسره به أي: فسر الشرك الأصغر بالرياء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم".

وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الرياء تحذيرا شديدا في أحاديث كثيرة، ومنها:
عن محمود بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم (أشد شيء أخافه عليكم) الشرك الأصغر، الرياء، يقول الله عز جل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟) رواه أحمد.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء) سماه أصغر لأن العبد لم يكفر بالله، ولم ينكر ألوهيته، ولكنه بريائه أشرك مع الله غيره. وقوله: (يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟) والمعنى: من عمل عملا لغير الله، ودون إخلاصه لله، أو مع إشراك غير الله فيه، فهو مردود عليه، وليس له عند الله جزاء ولا أجر، فليذهب كل واحد وليطلب الأجر ممن جعله شريكا لله فيه، ولن يجد عنده أجرا، لأنه لا يعطي الأجر والثواب إلا الله عز وجل، وهو أغنى الشركاء عن الشرك. ففي الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه).
ومن معاني الحديث النبوي: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء):
ـ الشرك بالله ينقسم إلى أكبر وأصغر، فالأكبر هو أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله عز وجل، والأصغر هو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر، والفرق بينهما كبير: فالشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، والأصغر يحبط العمل الذي قارنه. والشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، والأصغر لا يوجب الخلود في النار. وفي الحديث: التحذير من الرياء والشرك بالله، والحث على إخلاص النية، والعمل لله عز وجل.. وفي الحديث كذلك: شدة شفقة ورحمة نبينا صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على هدايتهم، ونصحه لهم.
ـ قال الصنعاني في "سبل السلام": "وحقيقة الرياء لغة أن يرى غيره خلاف ما هو عليه، وشرعا أن يفعل الطاعة ويترك المعصية مع ملاحظة غير الله، أو يخبر بها، أو يحب أن يطلع عليها لمقصد دنيوي من مال أو نحوه، وقد ذمه الله في كتابه وجعله من صفات المنافقين في قوله: {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}(النساء:142)، وقال: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}(الكهف:110)، وقال: {فويل للمصلين}(الماعون:4)، وقوله: {الذين هم يراءون}(الماعون:6). وورد فيه من الأحاديث الكثيرة الدالة على عظمة عقاب المرائي".
ـ وفي "البدر التمام شرح بلوغ المرام": "الحديث فيه دلالة على قبح الرياء، وأنه من أعظم المعاصي المحبطة للأعمال.. وتسميته شركا أصغر يدل على أنه في رتبة تلي الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، والوبال المهلك الوخيم".
ـ وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) فسئل عنه فقال: (الرياء) أن الإنسان يرائي في عباداته يصلي لأجل الناس، يتصدق لأجل الناس، يحسن الخلق لأجل الناس.. فهذا رياء والعياذ بالله والمرائي حابط عمله، والرياء من صفات المنافقين كما قال الله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}(النساء:142)".

فوائد:
ـ من أعظم أسباب الرياء ودوافعه كما قال ابن قدامة: "حب لذة الحمد والثناء والمدح، أو الفرار من الذم، أو الطمع فيما في أيدي الناس".
ـ قال الطبري: {فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}(الكهف:110): "{فليعمل عملا صالحا} يقول: فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية، {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} يقول: ولا يجعل له شريكا في عبادته إياه، وإنما يكون جاعلا له شريكا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره".
ـ قال ابن حجر في "الزواجر عن اقتراف الكبائر": "علم أن في كتم العمل فائدة الإخلاص، والنجاة من الرياء، وفي إظهاره فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء، وقد أثنى الله على القسمين فقال عز وجل: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}(البقرة:271)، لكنه مدح الإسرار لسلامته من تلك الآفة العظيمة التي قل من يسلم منها. وقد يمدح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه، كالغزو، والحج، والجمعة، والجماعة، فالإظهار المبادرة إليه، وإظهار الرغبة فيه؛ للتحريض، بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء".
ـ قال ابن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين": "وشوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطا للأجر، ومفسدا للعمل بل فيه تفصيل، فإن قيل: فما ترى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟ فالجواب: أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم، فالمحمود أن يكون قصده إخفاء الطاعة، والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق، علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيسر بحسن صنع الله، ونظره له، ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله عليه الطاعة وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح في الدنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة. فأما إن كان فرحه باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم حتى يمدحوه، ويعظموه، ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم، فإن قيل: فما وجه حديث أبي هريرة: (قال رجل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه أعجبه؟ فقال: له أجران: أجر السر، وأجر العلانية) رواه الترمذي، فالجواب أن الحديث ضعيف، وفسره بعض أهل العلم بأن معناه أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتم شهداء الله في الأرض). وقد روى مسلم عن أبي ذر: (قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن). فأما إذا أعجبه ليعلم الناس فيه الخير ويكرموه عليه فهذا رياء".

الرياء عاقبته وخيمة لفساد وفقدان أهم شرط من شروط قبول العمل، وهو الإخلاص لله عز وجل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء). وقال شداد بن أوس: "كنا نعد الرياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر".وقال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": "وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك:2) قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة".
والواجب على المسلم أن يحذر الشرك بالله صغيره وكبيره، وأن يستعين بالله على الإخلاص، واللجوء إليه سبحانه بالدعاء، والتعوذ به عز وجل من الرياء، وأن يعرف عظم جزاء وأجر المخلصين لله عز وجل في دنياهم وآخرتهم.. وإذا كان الشرك الأصغر ـ الرياء وغيره ـ مخوفا لأصحاب النبي صلي الله عليه وسلم، مع فضل صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه من هو دونهم في الإيمان والعلم والعمل؟!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة