سؤال المَلَكَيْن في القبر

0 701

الملائكة خلق من مخلوقات الله تعالى، خلقهم الله عز وجل من نور، وهم مكرمون خلقا وخلقا، بررة صفة وفعلا، وهم رسل الله تعالى وجنده في تنفيذ أمره الذي يوحيه إليهم، ومجبولون على طاعة الله، قال الله تعالى عنهم: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}(التحريم:6). والملائكة ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا، ولا شركاء معه ولا أندادا، قال الله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}(الأنبياء:26)، قال ابن كثير: "يقول تعالى ردا على من زعم أن له ـ تعالى وتقدس ـ ولدا من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: {سبحانه بل عباد مكرمون} أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده، في منازل عالية ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا". وقال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون}(الزخرف:19). قال السعدي: "يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين.. ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله".
والإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). ولا علم لنا بعالم وصفات وأحوال وأسماء الملائكة إلا في حدود ما أخبرنا الله عز وجل عنه في قرآنه الكريم، أو من خلال أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم الصحيحة.

والملائكة بالنسبة إلى ما هيأهم الله تعالى له ووكلهم به على أقسام، وقد ورد في الكتاب والسنة أسماء بعضهم، والأمور الموكلة إليهم، ومن ذلك: من الملائكة ما هو موكل بالوحي من الله تعالى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال الله تعالى: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله}(البقرة:97). ومنهم الموكل بالقطر (المطر) وهو ميكائيل عليه السلام، قال ابن كثير: "ميكائيل موكل بالقطر والنبات اللذين يخلق منهما الأرزاق في هذه الدار، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه، يصرفون الرياح والسحاب، كما يشاء الرب جل جلاله". ومنهم الموكل بالنار، وهم خزنة جهنم، ورؤساؤهم تسعة عشر، ومقدمهم مالك عليه السلام. قال الله تعالى عن جهنم: {وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر}(المدثر:27-30). وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}(الزخرف:77)، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "{ونادوا يا مالك} فلما قل صبرهم نادوا يا مالك خازن النار". ومن الملائكة ما هو موكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت وأعوانه من الملائكة، قال الله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون}(السجدة:11)، وقال تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}(الأنعام:61). ولم يثبت عزرائيل اسما لملك الموت في الكتاب أو السنة، وإنما اسمه "ملك الموت". ومن الملائكة ما هو موكل بفتنة وسؤال القبر وهما: "المنكر" و "النكير".

"المنكر" و"النكير":
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه) رواه الترمذي. ومن المعلوم أن أهل السنة يؤمنون بأن الأحاديث النبوية الصحيحة في إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية وحي من الله تعالى، يجب الإيمان بها وتصديقه فيها، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:4:3). ومن مقتضيات "أشهد أن محمدا رسول الله" التصديق الجازم والتسليم الكامل بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور غيبية، ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأجلساه، وسألاه عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟. قال الشيخ ابن عثيمين: "ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا مات فإنها تعاد روحه إليه في قبره، ويسأل عن ربه، ودينه، ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وأما الكافر أو المنافق فإنه إذا سئل يقول: ها، ها، لا أدري".
و"المنكر" و"النكير" ملكان يأتيان العبد بعد موته ومفارقته للدنيا، فيسألانه وهو في قبره عن ربه سبحانه، وعن الدين الذي اتبعه، وعن الرسول الذي آمن به، وقد سمي كلا من "المنكر" و"النكير" بهذين الاسمين، لأنهما يأتيان على صورة لم يعهدها الإنسان وليس فيها أنس للناظرين، ويسميان الفتانان، لأنهما يفتنان الناس في قبورهم.
وقد ورد وثبت الإخبار عن عدد من الملائكة بأسمائهم وأعمالهم الخاصة بهم التي أمرهم الله تعالى بها، ومن هؤلاء اسم الملكين الموكلين بسؤال الميت، وأنهما أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: "المنكر"، والآخر: "النكير". ولا عبرة لإنكار من أنكر ذلك وقال: لا يصح أن يقال عن بعض ملائكة الله أنه منكر ونكير، فأنكروا هذا بالعقل، وهذا من قلة العلم من هؤلاء بالشرع.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبد إذا وضع في قبره، وتولي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعا، وأما الكافر - أو المنافق - فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين (الإنس والجن)) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قبر الميت ـ أو قال أحدكم ـ، أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر والآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينور له فيه) رواه الترمذي.
قال العيني: "وإنما سميا بهذا الاسم لأن خلقهما لا يشبه خلق الآدميين، ولا خلق الملائكة، ولا خلق البهائم، ولا خلق الهوام، بل لهما خلق بديع، وليس في خلقتيهما أنس للناظرين إليهما، جعلهما الله تكرمة للمؤمن لتثبته وتبصره، وهتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب، وسميا أيضا: فتانا القبر".
وقال المباركفوري: "(فيأتيه ملكان) أي "المنكر" و"النكير" لكن في صورة مبشر وبشير".
وقال الإمام الطحاوي: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال "منكر ونكير" في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران".
وقال ابن أبي العز الحنفي: "وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول".
وقال ابن أبي عاصم (المتوفى 287هـ) في كتابه "السنة": "والأخبار التي في المساءلة في القبر منكر ونكير أخبار ثابتة توجب العلم، فنرغب إلى الله أن يثبتنا في قبورنا عند مسألة منكر ونكير".
وقد سأل رجل الإمام أحمد: "هل نقول المنكر والنكير أم الملكين؟ قال: "المنكر والنكير هكذا هو".

حياة البرزخ التي تبدأ بالموت وفراق الروح للبدن، وما يحدث فيها من أسئلة الملكين في القبر، ومن نعيم أو عذاب، على المسلم الإيمان والتسليم بما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم عنها.. وأهل السنة يؤمنون بأن هناك عذابا في القبر بحسب حال الميت من عمله، وما استوجبه من ذنوبه ومعاصيه. والأسباب التي تؤدي إلى عذاب القبر كثيرة، وهي على سبيل الإجمال كما قال ابن القيم: "فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب".
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بسؤال الملكين: "المنكر" و"النكير"، ويسمى فتنة القبر. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم (أرذل العمر)، والمغرم (الدين) والمأثم (الأمر الذي يأثم به الإنسان)، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر) رواه البخاري. قال ابن حجر: "قوله: (فتنة القبر) هي سؤال الملكين". وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي": "(وفتنة القبر) أي: التحير في جواب الملكين". وقال ـ في رواية ـ: (وقي فتنة القبر) أي مما يفتن المقبور به من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب". وفي العقيدة الطحاوية: "ونؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال "منكر ونكير" في قبره عن ربه ودينه ونبيه".
الإيمان بالغيبيات ومنها حياة البرزخ، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، يزيد وينمي في النفس مراقبة الله سبحانه، والاجتهاد في عبادته وطاعته، ويزجرها عن فعل المنكرات وارتكاب المعاصي، لإيمانها بالعاقبة بعد الموت، وما يلاقيه العبد من نعيم أو عذاب لما قدمه من عمل في حياته الدنيا.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) رواه الترمذي.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة