الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ

0 664

خلق الله عز وجل الخلق لعبادته وتوحيده، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات:56). قال ابن كثير: "أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي". وقال القرطبي: "والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون". وأعظم ذنب عصي الله عز وجل به هو الشرك به، وكفى بالشرك بالله إثما وشرا أن الله لا يغفره، وأن عاقبته الحرمان من الجنة والخلود في النار، قال الله تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}(المائدة:72). وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}(النساء:48). والشرك محبط للعمل، وموجب لخسارة صاحبه، قال الله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}(الزمر:65). والشرك بالله عز وجل أعظم الظلم، قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}(الأنعام:82) شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13)) رواه البخاري.
قال القاضي عياض: "الظلم في كلام العرب وضع الشيء في غير موضعه، ثم استعمل في كل عسف، فمن كفر بالله وجحد آياته وعبد غيره فقد عدل (حاد وابتعد) عن الحق، وتعسف في فعله، ووضع عبادته غير موضعها، وكذلك في غير ذلك من الأشياء". 
وقال النووي: "وقع الحديث (حديث عبد الله بن مسعود) هنا في صحيح مسلم، ووقع في صحيح البخاري: لما نزلت الآية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}، فهاتان الروايتان إحداهما تبين الأخرى، فيكون لما شق عليهم أنزل الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}، وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك المراد به هذا المقيد وهو الشرك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ليس الظلم على إطلاقه وعمومه كما ظننتم، إنما هو الشرك كما قال لقمان لابنه، فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم على عمومه، والمتبادر إلى الأفهام منه، وهو وضع الشيء في غير موضعه، وهو مخالفة الشرع، فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم. قال الخطابي: إنما شق عليهم لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس (التعدي على حقوق الناس) وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد معناه الظاهر، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل العبادة لغير الله تعالى فهو أظلم الظالمين. وفي هذا الحديث جمل من العلم منها: أن المعاصي لا تكون كفرا".
وقال العيني: "قوله: (إنما هو الشرك) أي: الظلم المذكور في تلك الآية هو الشرك، والظلم لفظ عام يعم الشرك وغيره، وقد خص في الآية بالشرك". وقال: "وهذا الحديث مضى في كتاب الإيمان في: باب ظلم دون ظلم".
وقال القرطبي: "قوله تعالى: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} أي: لم يخلطوا.. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.. والمراد به في الآية: الشرك، وهو أعظم الظلم، إذ المشرك اعتقد الإلهية لغير مستحقها، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} أي: لا ظلم أعظم منه. ويقال على المعاصي ظلم، لأنها وضعت موضع ما يجب من الطاعة لله تعالى".
وقال القسطلاني: "(قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟) حملوه على العموم، لأن قوله بظلم نكرة في سياق النفي، فبين لهم الشارع صلى الله عليه وسلم أن الظاهر غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (ليس كما تقولون) بل المراد {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}(الأنعام:82) أي: بشرك".

فائدة:
ـ
الشرك بالله عز وجل ينقسم إلى قسمين: الأول: الشرك الأكبر. قال السعدي في كلامه عن الشرك الأكبر: "أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعوا الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة". والثاني: الشرك الأصغر وصوره عديدة يصعب حصرها، قال ابن القيم في "مدارج السالكين": ‏‏"وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله… وقول الرجل ‏للرجل: ما شاء الله وشئت". والشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا إذا تاب، والشرك الأصغر مع أنه لا يخلد صاحبه في النار، إلا أنه ينبغي عدم التهاون به، والحذر منه كل الحذر، والبعد عنه كل البعد، وإذا لقي العبد ربه به من غير توبة منه، كان تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة. والشرك الأصغر ينقص الإيمان، وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، وقد يكون في الأقوال وقد يكون في الأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شركا..
ـ الظلم ظلمان: ظلم أكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها. وظلم أصغر: وهو ظلم العباد بعضهم بعضا، وكذا ظلم العبد نفسه بالمعاصي.
قال ابن القيم في "الصلاة وأحكام تاركها": "وسمي الكافر ظالما، كما في قوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون}(البقرة:254)، وسمي متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، فقال: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}(الطلاق:1)، وقال يونس نبيه: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}(الأنبياء:87)، وقال صفيه آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا}(الأعراف:23)، وقال كليمه موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}(القصص:16)، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.. والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، وكذا الجهل جهلان: جهل كفر، كما في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف:199)، وجهل غير كفر، كقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}(النساء:17). كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة (الدين) وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر: وهو شرك العمل: كالرياء.. ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه أبو داود وغيره، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل). فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها. وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)".

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13)). الكثير من الفوائد، ومنها:
ـ في الحديث دليل على فضل التوحيد، وعظم جرم الشرك، وأنه موجب للحرمان من الأمن والهداية، وسبب للخوف والقلق، قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}(الأنعام:82). وأما أهل التوحيد فهم أهل الأمن في الآخرة والهداية في الدنيا والآخرة.
ـ تصريح النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره بانصراف الظلم المذكور في الآية إلى الشرك. وكون الشرك ظلما، حيث إن الله تعالى هو الخالق الرزاق، المحيي المميت، فإذا أشرك الإنسان معه غيره فقد جاء بظلم عظيم.
ـ وفي الحديث دليل على أن الظلم مراتب ودرجات متفاوتة، وأن أعظم الظلم الشرك بالله، وهذا يتضح من فهم الصحابة رضوان الله عليهم بأن المعاصي تسمى ظلما فقالوا: (أينا لا يظلم نفسه؟) وبيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المقصود هنا هو الشرك بالله. والأدلة قد دلت على أن لفظ الكفر ومثله الظلم والفسق والشرك قد وردت في الشرع على معنيين أكبر وأصغر.
 ـ ومن فوائد الحديث: أهمية جمع النصوص بعضها لبعض ليتضح المراد، فالصحابة فهموا الظلم على أنه المعاصي، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء لهم من النصوص ما يدل على أن الظلم يطلق على الشرك أيضا. وفي ذلك دلالة على أهمية الرجوع لأهل العلم الراسخين في فهم النصوص الشرعية والجمع بين الأدلة. 

أهل التوحيد هم أهل الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}(الأنعام:82). قال ابن كثير: "أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك، له، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.. عن عبد الله قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13)". وقال السعدي: "{الذين آمنوا ولم يلبسوا} أي: يخلطوا {إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} الأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة