عِلْم أهل الكتاب بنبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم

0 561

جاءت الأخبار الكثيرة والصحيحة بمعرفة أهل الكتاب من اليهود والنصارى بصفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر اليهود، ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا). قال ابن تيمية: "والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم". وعلى الرغم من ذلك، فمنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من منعهم الحسد والكبر عن الإيمان به، فخسر الدنيا والآخرة. وقد أخبرنا الله عز وجل عن ذلك في القرآن الكريم، فقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}(البقرة:146)، وقال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}(المائدة 82 :84).
قال ابن كثير: "فقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم".

لقد كانت أخبار اليهود بقرب بعثة نبي تشيع في يثرب (المدينة المنورة)، وتنتقل إلى أهلها طبقة بعد طبقة، وكان ذلك من أسباب مسارعة الأنصار للاستجابة للنبى صلى الله عليه وسلم والإيمان به، وقد ذكر قتادة رضي الله عنه عن رجال من الأنصار السبب فى مسارعتهم إلى إجابة النبى صلى الله عليه وسلم ونصرته والإيمان به فقال ـ كما ذكر الألباني في كتابه: "صحيح السيرة النبوية" ـ: "إن مما دعانا إلى الإسلام ـ مع رحمة الله تعالى وهداه لنا ـ: أن كنا نسمع من رجل من اليهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}(البقرة: 89).
 
والمواقف والأمثلة من السيرة النبوية التي تدل على علم أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومنها:
اليهود:
ـ عبد الله بن سلام بن الحارث كان حبرا من كبار علماء يهود بني قينقاع، ثم أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال عنه الذهبي في السير: "الإمام الحبر، المشهود له بالجنة، حليف الأنصار، من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". وقال عنه النووي: "هو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه في الجاهلية حصينا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله. أسلم أول قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة".
وفي قصة إسلامه رضي الله عنه شاهد على علم اليهود بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلامفيكم؟!، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟! قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله) رواه البخاري.
ـ زيد بن سعنة:
قال ابن عبد البر: "كان من أحبار يهود، أسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة". وقد أسلم زيد بن سعنة حيث تعرف على بعض صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي يعرفها من التوراة، والتي منها: أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: أن الله لما أراد هدى زيد بن سعنة قال زيد: (لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، قال: فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله). فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا، وقال: (فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟! فو الله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلا، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه ثم رماني ببصره وقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فلولا ما أحاذر لومه ضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، وقال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير ذلك منك يا عمر،أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فاقبضه حقه، وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم) رواه الطبراني.
ـ وفي حديث أم المؤمنين صفية رضي الله عنها وهي تصف ما دار بين أبيها حيي بن أخطب أحد كبار وزعماء اليهود وعمها، وعلمهما بصدق ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو (أي: أن محمدا هو النبي المنتظر)؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت".

النصارى:
ـ هرقل ملك الروم:
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائل للملوك والأمراء في عصره يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم: كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم، وفي ردهما على ما فيها دليل على علمهما ببعض علامات وبشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم من علمائهم وكتبهم الصحيحة.
عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي ـ وهو غير الذي صلى عليه -، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه دحية الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيين، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}(آل عمران:64) ) رواه البخاري. وقد تسلم هرقل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودقق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل، حين سأله عن أحوال وصفات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هرقل بعد ذلك لأبي سفيان بعد ما سمع منه بعض صفات النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما يأمرهم به: "إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه (تكلفت الوصول إليه)، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه" رواه البخاري، وفي رواية مسلم: "لأحببت لقاءه".
ـ النجاشي ملك الحبشة:
قال عنه ابن الأثير: "أصحمة النجاشي ملك الحبشة، أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن إلى المسلمين الذين هاجروا إلى أرضه، وأخباره معهم ومع كفار قريش الذين طلبوا منه أن يسلم إليهم المسلمين مشهورة، وتوفي ببلاده قبل فتح مكة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكبر عليه أربعا، وأصحمة اسمه، والنجاشي لقب له ولملوك الحبشة، مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم". وقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" قصة إسلامه في هجرة المسلمين إلى الحبشة وقوله لجعفر رضي الله عنه: "ما يقول صاحبكم (محمد) في ابن مريم؟ قال جعفر: يقول بقول الله فيه: "هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، فتناول النجاشي عودا من الأرض ورفعه وقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ولا وزن هذه .. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، امكثوا في أرضي ما شئتم". 
ـ سلمان الفارسي:
في قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه دليل يشهد بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلم أهل الكتاب بأماراته وصفاته، فقد ظل سلمان يبحث عن النبي الحق الذي عرف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عمورية والذي وصف له نبي آخر هذا الزمان، وقد ذكر الألباني في كتابه "صحيح السيرة النبوية": "أن راهب النصارى عندما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يوصيه، فقال الراهب: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه".. ثم قص سلمان رضي الله عنه خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه، ولقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، وإهدائه له طعاما على أنه صدقة، فلم يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إهدائه له طعاما على أنه هدية وأكله منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك.

لقد حفلت السيرة النبوية بالأخبار والأمثلة الدالة على علم أهل الكتاب بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم أحبارهم ورهبانهم بصفاته وعلاماته صلى الله عليه وسلم.. وقد أكد القرآن الكريم على وجود أمارات وصفات نبينا صلى الله عليه وسلم في كتب اليهود والنصارى قبل تحريفها، فقال: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}(الأعراف:157)، وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}(البقرة:146).. إلا أنهم لم يؤمنوا به جحودا وحسدا واستكبارا، وقد قال الله عنهم وعن أمثالهم ممن كذبوا رسول الله ولم يؤمنوا به: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}(الأنعام:33)..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة