تصحيح المفاهيم في السنة النبوية ( مفهوم الجهاد )

0 241

لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام، فإن نفوس المؤمنين تتوق إلى إحراز هذا الشرف، وبلوغ هذه المنزلة، سيما حين يعلم المسلم بتلك الفضائل والعطايا التي وعد الله بها عباده المجاهدين مما ليس لأحد سواهم، وهو على مر القرون باب مفتوح لأبطال المسلمين وصلحائهم، غير أنه قد يحصل التباس في تضييق مفهومه، أو تعجل في تنزيل نصوصه، مما يؤدي إلى الانحراف في واقع العمل والتطبيق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان يوجه المسلمين نحو المفهوم الأسمى للجهاد، ويرسخ مقاصده، ويعمم أحكامه وضوابطه من خلال ما يأتي:

أولا: توسيع دائرة مفهوم الجهاد
فنجد في السنة النبوية التنبيه على معان واسعة ومتعددة للجهاد، وذلك حتى لا ينحصر المفهوم حول صورة المواجهة مع العدو في ساحة المعركة، وإن كان هذا هو الميدان الأوسع الذي يصدق عليه معنى الجهاد، وهو المقصود في أكثر النصوص الواردة في بابه، ولكن السنة النبوية تطلعنا على مفاهيم أخرى من الجهاد بمثابة المقدمات التي يستطيع من خلالها الوصول إلى هذه الصورة.

من ذلك: جهاد النفس في طاعة الله، وقد بوب البخاري في صحيحه باب من جاهد نفسه في طاعة الله، وأورد حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المجاهد من جاهد نفسه"، وإنما اعتبر مجاهدة النفس على الطاعة وكفها عن المعصية جهادا؛ لأنها في ميلها إلى التكاسل عن الطاعة والرغبة في المعصية تعتبر عدوا للإنسان على وجه الحقيقة، ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مواجهة هذه النفس من الجهاد لما فيه من مشقة مغالبة الهوى، بل قد يكون أعسر من مغالبة العدو في أرض المعركة، بل إن جهاد النفس أصل لجهاد العدو لا يقدر عليه بدون جهاد نفسه أولا.

ومن ذلك: كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة إذا كان ذلك أمام من يخشى سطوته من ذي سلطان، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر رواه الترمذي في سننه،  وفي المعجم الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فنهاه وأمره، فقتله، وذلك لأن من ضعف عن كلمة حق ينصر بها مظلوما، أو يحق بها حقا، أو ينكر بها منكرا فهو فيما سواها أضعف، وقد ضعف المسلمون في هذا الصنف من الجهاد إما رغبة في لعاعة دنيا أو رهبة من أذى يلحق بهم والله المستعان.

ومن ذلك: الحج المبرور، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد في حق المرأة المسلمة، كما في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يارسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور" رواه البخاري في صحيحه، وذلك لما يتطلبه الحج المبرور من مجاهدة النفس والشيطان، وتحمل المشاق المتنوعة، وبذل المال والبدن في سبيل ذلك.

وهكذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم القيام بخدمة الوالدين، والسعي في طلب الرزق على النفس والعيال من الجهاد في سبيل الله، مما يجعل مفهوم الجهاد أوسع بكثير مما هو موجود في الصورة الذهنية لدى البعض، بل إنه يمكننا أن نلحق بما ذكر على وجه إعمال العموم كل ما في معنى المنصوص من الفروض الكفائية التي يتحقق بها الكفاية لهذه الأمة في المجالات العسكرية والصناعية والتكنولوجية وغيرها من عوامل النهضة الحضارية للمسلمين ما دام المقصد من ذلك تحقيق الاستخلاف لدين الله في الأرض فإنه من مشمولات الجهاد في سبيل الله.

ثانيا: توسيع أدوات ووسائل الجهاد
تبين لنا مما سبق سعة مفهوم الجهاد في سبيل الله، وشموله لأبواب من الخير كثيرة، وبقي أن نوضح سعة مفهوم الأدوات والوسائل التي يتحقق بها الجهاد في سبيل الله، حتى لا يظن البعض أنه إن عجز عن الجهاد باليد فقد سقط عنه الواجب، بل إن أدوات الجهاد واسعة كسعة مفهوم الجهاد نفسه، فهي مراتب ينتقل المسلم من مرتبة إلى مرتبة، بحسب الظروف والأحوال، كما في حديث عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل رواه مسلم في صحيحه.
قال النووي في شرحه على مسلم: (الحواريون) المذكورون اختلف فيهم، فقال الأزهري وغيره: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نقوا من كل عيب، وقال غيرهم: أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم، و(الخلوف) بضم الخاء جمع خلف باسكان اللام وهوالخالف بشر، وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر.
وموضع الشاهد في الحديث لما نحن بصدده هي تلك المراتب والأدوات التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن بها يحصل الجهاد مرتبة بحسب القدرة والاستطاعة، كما في قوله: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

فأول ما يحصل به: الجهاد باليد لمن قدر من ذي شوكة أو سلطان، أو بلسانه لمن قدر من أهل الرأي والفكر والإعلام الذي أصبح اليوم من أوسع ميادين وأدوات الجهاد باللسان، وذلك ببيان الحق الذي يريده الله من الخلق، والدفاع عن قطعيات الدين ومحكماته الواضحات، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى الإنكار القلبي عند العجز الكامل، ولا يسقط هذا القدر من الإنكار عند عدم القدرة على ما قبله؛ وذلك لأنه يستطيعه كل أحد وهو دليل ما تبقى من الإيمان في قلب العبد !!

ومما أكد فيه النبي صلى الله عليه وسلم على سعة أدوات الجهاد ووسائله ما جاء في المسند عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم إسناده صحيح على شرط مسلم.

ثالثا: مقاصد القتال في الإسلام:
جاء النبي صلى الله عليه وسلم مصححا لمفهوم القتال في حياة المجتمع العربي القائم على الغارات القبلية التي كانت بينهم على أسس جاهلية، ليؤسس لقتال مقصده الأعظم إعلاء كلمة الله فحسب، فأذاب من صدورهم كل المقاصد الجاهلية من الانتقام، والافتخار، والنصرة لأبناء العمومة، والاستيلاء على الثروات، وملك الرقاب وإذلالها، فلم يعد لهذه الأغراض قيمة في المنطق النبوي المستمد من وحي السماء، فقد قال لهم كما في حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه- أن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى، فهو في سبيل الله رواه مسلم في صحيحه.
ويتم إقامة هذا المقصد من خلال الدعوة إلى هذا الإسلام، وإزالة الموانع أمام هذه الدعوة العادلة، حتى يتمكن الناس من سماع الإسلام والتعرف عليه، ثم هم بعد ذلك بخيار القبول به والدخول فيه، أو العيش في ظلاله مسالمين، وأما إن اختاروا الحيلولة بين الناس وبين دعوة الإسلام فلم يعد بد من قتالهم، كما قال النووي رحمه الله في روضة الطالبين: "الجهاد دعوة قهرية، فيجب إقامته بحسب الإمكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم".

فالقتال في الإسلام لم يشرع لاستئصال الكفار من الأرض، فتلك مناقضة لإرادة الله الكونية، ولذلك لم يبح الإسلام قتل كل من قام به وصف الكفر مطلقا، بل لابد أن يكون محاربا معتديا مظاهرا على المسلمين، يقول ابن تيمية: "وقول النبي ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم، والمعنى: إني لم أومر بالقتال إلا إلى هذه الغاية، ليس المراد أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله".

إذن فمفهوم الجهاد بالمنطق النبوي منظومة متكاملة من الأحكام والتعاليم، والمقاصد السامية، والأدوات والوسائل المتنوعة بحسب الظروف والأحوال، فليس عملية ارتجالية تخضع للأهواء والسياسات، بل هو شريعة محكمة، وفريضة ماضية، وفي السنة النبوية المطهرة التطبيق الأسمى للجهاد بمفهومه الشامل، وبأدواته الواسعه، ومقاصده العميقة، ولا يمكن لأي تجربة جهادية أن تؤتي ثمارها ما لم تكن محتكمة للتطبيق النبوي الراشد لهذه الفريضة العظيمة.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة