كُلُّ مَعْروفٍ صَدقة

0 463

الصدقة في هدي وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على بذل وإنفاق المال فحسب، بل تتعداها إلى الكثير من الأمور التي يقدر على فعلها الغني والفقير، والكبير والصغير. والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث التي تدلنا على أبواب هذه الصدقات التي لا ينفق فيها درهم ولا دينار، ومن ذلك:

1 ـ الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) رواه أبو داود. وفي رواية: (أن رجلا دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجل من القوم فصلى معه).
قال الهروي: "(ألا رجل يتصدق على هذا) أي: يتفضل عليه ويحسن إليه، (فيصلي معه): ليحصل له ثواب الجماعة، فيكون كأنه قد أعطاه صدقة، وفيه دليل على أن دلالة أحد على الخير وتحريضه عليه صدقة.. سماه صدقة لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة".
2 ـ صلاة الضحى:
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصبح على كل سلامى (عظم الأصابع، والمراد به العظام كلها) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "قوله: (ويجزئ من ذلك ركعتان من الضحى) أي: يكفى من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء، إذ الصلاة عمل  لجميع أعضاء الجسد، ففيه بيان عظيم في فضل صلاة الضحى، وجسيم أجرها".
3 ـ إماطة الأذى عن الطريق:
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمط (أزل) الأذى (ما يؤذي) عن الطريق فإنه لك صدقة) رواه أحمد. وفي رواية للترمذي: (وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة).
4 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بعلم وحكمة ورفق ومراعاة للمصالح والمفاسد ـ صدقة من الصدقات. عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة) رواه الترمذي.
5 ـ تبسمك في وجه أخيك:
عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) رواه الترمذي. قال المناوي: "(تبسمك في وجه أخيك) أي في الإسلام، (لك صدقة) يعني: إظهارك له البشاشة، والبشر إذا لقيته، تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة".
6 ـ الكلمة الطيبة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكلمة الطيبة صدقة) رواه البخاري. قال ابن حجر: "قال ابن بطال: وجه كون الكلمة الطيبة صدقة: أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية".
7 ـ التسبيح والتحميد والتكبير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور (أصحاب الأموال الكثيرة) بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر (عقب) كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) رواه مسلم. قال ابن الجوزي: "وهذا الحديث يتضمن شكوى الفقراء وغبطتهم للأغنياء، كيف ينالون الأجر بالصدقة، وهم لا يقدرون، فأخبرهم أنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم وأفعالهم الخير كما يثاب أولئك على الصدقة".
8 ـ الصبر على الذي عليه دين:
إنظار وإمهال الذي عليه دين صدقة للدائن بكل يوم ينظره فيه هذا إذا كان الدين لم يحل وقت سداده، أما إذا جاء وقت سداد الدين وأنظره صاحب الدين فله بكل يوم ينظره مثليه صدقة مضاعفة له في الأجر. عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنظر معسرا (أمهل مديونا فقيرا وأجل له في مدة سداد دينه) فله كل يوم مثله صدقة، فقلت: يا رسول الله سمعتك تقول: من أنظر معسرا فله كل يوم مثليه صدقة، قال له: كل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل فأنظر فله كل يوم مثليه صدقة) رواه ابن ماجه.
9 ـ الغرس والزرع:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري.قال القاضي عياض: "الحديث: فيه الحض على الغرس واقتناء الضياع، كما فعله كثير من السلف، خلافا لمن منع ذلك. واختصاص الثواب على الأعمال بالمسلمين دون الكفار. وفيه أن المسبب للخير أجر بما تنفع به، كان من أعمال البر أو مصالح الدين"، وقال الشيخ ابن عثيمين: " ففي هذا الحديث حث على الزرع، وعلى الغرس، وأن الزرع والغرس فيه الخير الكثير، فيه مصلحة في الدين، ومصلحة في الدنيا.. وفي هذا دليل على أن المصالح والمنافع إذا انتفع الناس بها كانت خيرا لصاحبها وأجرا وإن لم ينو، فإن نوى زاد خيرا على خير، وآتاه الله تعالى من فضله أجرا عظيما". وقال ابن هبيرة: " في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى يحتسب للعبد أعمال البر مضاعفة وبما ينتهي إليه، وكل ما يبلغ من مبالغها، فإن من غرس شجرة كان له ثواب كل من أكل منها، واستظل بظلها، أو اهتدى في الطريق بها أو غير ذلك، فكذلك إذا زرع زرعا. وفيه أيضا: أنه إن أكل من ذلك آدمي حسب بذلك صدقة، وكذلك إن أكل منه طائر أو بهيمة؛ لأن الكل خلق الله تعالى".
10 ـ ومن الأمور كذلك التي حثنا النبي صلى الله عليه وسلم عليها وأمرنا بها في أحاديث كثيرة ـ وهي من باب الصدقات بلا إنفاق مال ـ: إرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة (من أرشد إنسانا ضالا إلى الطريق الذي يريده، كان له كأجر صدقة)، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة (أي: ومن أعان كفيف البصر على بلوغ أمره ووصوله مطلبه، كان له كأجر صدقة)، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة، وعدلك (إصلاحك بالعدل) بين الاثنين صدقة، وإعانتك الرجل على دابته بأن تحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والشربة من الماء، وعيادة المريض صدقة، واتباع الجنازة صدقة، وتسليمك على الناس صدقة، وردك السلام صدقة.. بل وكفك الشر والأذى عن الناس صدقة منك على نفسك.

من خلال المنهج النبوي الذي يوجهنا دائما إلى طريق الخير والصلاح، والسعادة والفلاح، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تقتصر على بذل وإنفاق المال فحسب، بل تتعداها إلى الكثير من الأمور التي يقدر على فعلها الغني والفقير، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها وحث عليها حتى يرسخ المودة والحب والإخاء والتكافل بين أفراد المجتمع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة) رواه البخاري. وفي رواية عند الطبراني: (كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة).
قال الماوردي: "المعروف نوعان: قول، وعمل، فالقول: طيب الكلام وحسن البشر، والتودد بجميل القول، والباعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع، والعمل: بذل الجاه، والإسعاف بالنفس، والمعونة في النائبة، والباعث عليه حب الخير للناس وإيثار الصلاح لهم، وهذه الأمور تعود بنفعين نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذكر، ونفع على المعان بها في التخفيف والمساعدة فلذلك سماه هنا صدقة". وقال ابن بطال: "والمعروف مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن فعل المعروف صدقة عند الله يثيب المؤمن عليه ويجازيه به، وإن قل لعموم قوله: (كل معروف صدقة)، سواء قدم المعروف لغني أو لفقير، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل معروف تصنعه إلى غني وفقير فهو صدقة)". وفي كتاب "منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم": "(كل معروف) أي: عرف في الشرع بأنه قربة، من قول أو فعل، (صدقة) أي: كل ما يفعل من أعمال البر والخير فثوابه كثواب من تصدق بالمال، وسميت صدقة، لأنها من تصديق الوعد بنفع الطاعة عاجلا وثوابها آجلا. وفيه إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في المحسوس، فلا تختص بأهل اليسار مثلا، بل كل أحد يمكنه فعلها غالبا بلا مشقة".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة