مفهوم حقوق الإنسان في السنة النبوية_حق الحرية 2-2

0 559

 الحرية في الإسلام هي أحد ركائز التكليف وتكوين الأهلية، ولذلك سعى الإسلام إلى تحرير الأفراد من الرق الحسي والمعنوي، وأكد على هذا الحق في كل مناسبة، وأوجد الحماية الكافية الوافية لهذا الحق من أي اعتداء عليه بأي أسلوب كان، وسعى إلى تحرير الإنسان من كل ألوان الاستعباد والذل والتبعية العمياء، سواء كان ذلك في التبعية العقدية والإيمانية، أو التبعية التشريعية، فينشأ الفرد المسلم في ظل الإسلام وهو ينعم بحرية تتوافق مع حقوق الآخرين، ولا تتعارض مع القيم والأخلاق العليا.

وبالنظر في النصوص النبوية نجد حضورا لافتا لهذا المفهوم الكبير، وذلك على مستويين: الأول: في التأسيس لتخليص الفرد من الرق، وسن التشريعات والإجراءات الموصلة إلى الحرية، فقد جاء الإسلام والبشرية تتوارث الرق منذ القدم حسب ما أثبتته المصادر التأريخية، فقد كان معروفا لدى عرب الجاهلية ومن قبلهم من الفراعنة والآشوريين والروم وفارس وغيرهم من الأمم والحضارات، فلم يكن الإسلام هو المؤسس لهذا المظهر المناقض للحرية والكرامة الإنسانية، ولكن الفضل للإسلام في الحد من توسيع دائرة الرق، وفتح القنوات التي يتخلص بها العبيد من قيد العبودية، حيث جعل تحرير الرقاب حلا تشريعيا في كثير من أحكامه، سواء في باب الأيمان، أو الصيام، أو الظهار، أو القتل الخطأ، وغيرها من الأبواب، بل رغب في العتق ولو لغير ذنب، ورغب في مكاتبة العبيد على افتدء أنفسهم، وحث على إعانتهم على ذلك من بيت مال المسلمين، وجعل ذلك أحد مصارف الزكاة الثمانية، وجعل عتق الرقاب قربة ينال بها العبد رضوان ربه سبحانه وتعالى، بل اشتهر في التعليل الفقهي في كثير من مسائل الرق الدائرة بين زوال وصف الرق وبين بقائه بترجيح زواله بعلة تشوف الشارع إلى الحرية، بمعنى أن الشرع يميل إلى الحرية ما أمكن إلى ذلك سبيلا، وأن خيار الحرية أقرب إلى مقاصده من خيار الرق، فكلما وجد الفقيه مدخلا للقول بالحرية قدمه على غيره بناء على هذه الرغبة الإلهية في تحرير الرقاب. 

المستوى الثاني: التأسيس لحماية حق الحرية، واعتباره وصفا محميا من الشرع لا يقبل بالاعتداء عليه سواء كان اعتداء على أصله أو كماله، فالشرع هو مصدر الحريات نصا أو دلالة، فهو الذي يمنح الإنسان الحرية كجزء من كينونته كإنسان، فهو مكلف بالشرع على أساس هذا المبدأ، وبهذا الاعتبار يتضح أن الحرية منحة إلهية، وليست هبة من نظام أو فرد أو مؤسسة، وبالتالي فلا يحق الاعتداء على هذه القيمة الأساسية لهذا الإنسان مهما يكن، ولا يجوز مصادرة حريته، وإنما تقتصر مهمة الدول على تنظيم مساحات الحرية بحيث لا تتصادم المصالح ولا تتعارض الحريات، وهذا مبدأ لا بد من استيعابه.ويطالعنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور في هذا الباب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفى منه ولم يوفه أجره" رواه البخاري في الصحيح.

وإذا كان الإسلام لا يقبل بمصادرة الحرية حتى في إدخال الناس فيه، فأي مسوغ لحمل الناس على ما دون ذلك من الأفكار والقناعات، فالإنسان أمام الإسلام حر مختار لا يجبر على الدخول فيه، بل يعتمد الأمر على الإقناع والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي حال لم يقبل المدعو الدخول في الإسلام فهذا قراره الذي يتحمل آثاره في الدنيا والآخرة، غير أنه لا يجبر ولا يرغم عليه؛ لأن طبيعة هذا الدين تتنافى مع الإكراه، فهو استسلام وخضوع الباطن لله تعالى، وهذا لا يتأتى إلا بمحض الحرية والطواعية، قال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256).

وبناء على ما سبق من أن الحرية مصدرها الشرع فإن تنظيم الحريات في إطار الشرع لا مثيل له، فالله له الخلق والأمر، وهو العالم بمكنون هذا الإنسان وتركيبته وما يصلح له، والعلم بالمأذون به وغير المأذون من جهة الشرع أكمل وأحكم من كل قوانين العالم وسلطان الشرع أقوى من كل سلطات الأرض، وبه يكون الفرد مطمئنا لحدود حرياته مع الشرع أكثر من غيره، فالقوانين والتشريعات البشرية قد تفتح للفرد حرية بما يضره ويفسد دنياه وآخرته، فقد يجعلون الربا والزنا والخمور من ضمن حريات الفرد، ولا يخفى ما في ذلك من جناية على الإنسان عاجلة وآجلة، وقد يقيدون حريته بالقانون مما لا ضرر منه، بل قد تكون مصلحته فيه كالتدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأتي القوانين لتحد من حرياته في ذلك، وهكذا يكون القانون البشري أعمى عن المصالح والمفاسد الحقيقة في تنظيم الحريات، ولن يجد الناس أكمل من الإسلام، فلن يطلق أو يقيد حرية الفرد إلا بما ينفعه يقينا، وفي ظل الشرع لا تتناقض الحريات ولا تتداخل، لأن الجميع مرتبطون بغاية واحدة، وهي الاستخلاف في الأرض وإعمارها عبودية لله، فتنصهر كل الحريات والرغبات في هذا الهدف الأعلى، وتذوب نوازع الأنانية والفردية.

غير أن من إفرازات الحضارة الغربية المعاصرة اليوم هي التلاعب بمفهوم الحرية، فقد جردوا مفهومها عن القيم والأخلاق، بل حتى عن المنطق الإنساني، فالحرية الاقتصادية على سبيل المثال لا تلتزم بأسس وأخلاقيات اكتساب المال، فله الحق أن يكسب المال بالربا، والميسر، واليانصيب، بل وحتى بالحروب وتدمير الشعوب، وغيرها من وجوه الكسب التي تتقاطع مع منظومة القيم العادلة، وأفرزت الحرية الاجتماعية التي تنشئ للفرد الحق في ممارسة الفواحش وشرعنة الشذوذ الجنسي، غير عابئين بما ينشأ عن ذلك من عمليات الإجهاض المقننة، وقتل الأجنة في الأرحام، أو ما قد ينشأ من ولادة إنسان يرمى في الشوارع دون وجود أسرة حاضنة، كل هذا حماية لحرية النزوة والغريزة التي كانت على حساب ملايين النفوس المقتولة والمشردة، وهكذا تبرهن هذه الحضارة على زيف مفهوم الحرية لديها، وأنها عبارة عن شرعنة للنزوات والغرائز المنفلتة المتقاطعة مع وجود الإنسان وحياته ومستقبله.

فالشرع لا يعترف بحرية تفضي إلى فساد المجتمع، كما في حديث أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: (إن فتى شابا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا والله، يا رسول الله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة