شجاعة الاعتذار

0 735

إن الاعتذار عما بدر منا من خطأ ليس ضعفا كما يظنه بعض الناس، بل هو في الحقيقة قوة وشجاعة وثقة، ونقاء وصفاء نفس، كما أن الاعتذار يزيل الأحقاد، ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به والارتياب في تصرفاته، فشجاعة الاعتذار لا يتقنها إلا الكبار، ولا يحافظ عليها إلا الأخيار، ولا يغذيها وينميها إلا الأبرار، لأنها صفة نابعة من قلب أبيض، لا يحمل غشا، ولا يضمر شرا، فمن عرف خطأه واعتذر عنه، فهو كبير في نظر الكثير، والرجوع إلى الحق فضيلة؛ وما أجمل أن تكون مسارعا إلى الخير، رجاعا إلى الحق.
وإذا كان الخطأ من طبع ابن آدم فإن ما يمحو أثر الخطأ هو الاعتذار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
وقد قيل: ماء الاعتراف يمحو دنس الاقتراف.

وإذا رجعت إلى هذه الثلة المباركة أنبياء الله ورسله الذين هم خير البشر وصفوتهم لوجدتهم لا يتكبرون عن الاعتذار حين يحتاج إليه.
هذا نبي الله موسى عليه السلام حين صحب الخضر عليه السلام فنهاه الخضر عن سؤاله عن شيء حتى يحدثه به ويوقفه على حقيقة الأمر، فلما خالف نبي الله موسى عليه السلام الشرط اعتذر عن ذلك فقال: {لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا}(الكهف: 73).

وهذا نبي الله نوح عليه السلام اعتذر لربه تعالى من سؤاله النجاة لولده الذي لم يكن مؤمنا: {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ۖ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}(هود: 47).
وهكذا كان الصالحون لا يتكبرون عن الاعتذار إذا بدر منهم ما يستدعيه.

وروى أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف في غزوة بدر وكان في يده شيء يسوي به الصفوف، فرأى سواد بن غزية بارزا فطعنه في بطنه وقال له: "استو يا سواد". فقال سواد رضي الله عنه: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني قال فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: "استقد". فاعتنقه سواد فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟". قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
فلم يمنعه كونه رسول الله، ولا كونه قائد الجيش من الاعتذار تطييبا لنفس ذلك الرجل.

وعندما فتح الله عليه مكة خشي الأنصار أن يميل النبي صلى الله عليه وسلم للإقامة في مكة ، فقالوا: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: "قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟" قالوا: قد كان ذاك، قال: "كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم".
فلم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف يمر دون أن يبين لهم موقفه وهذا أطيب لنفوسهم، ولما سمع الأنصار ما قاله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقبل منهم وصدقهم.

وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبا، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عنده- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم فقد غامر" - أي: خاصم -، وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم.
فهذا الصديق يعتذر عما بدر ولا تمنعه مكانته وسابقته من تقديم الاعتذار عند الحاجة.
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه … وكان الذي لا يقبل العذر جانيا

الله يحب العذر
فتح الله عز وجل للتوبة بابا لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها، وما ذاك إلا لأنه يحب أن يرحم عباده ويحب العذر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله (يعني لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى)، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد".

إياك وما يعتذر منه
لئن كان الله تبارك وتعالى يحب العذر، ولئن ندب الشرع والأدب إلى تقديم الاعتذار عند الخطأ فإن الأولى أن يجتنب العبد ما يوجب الاعتذار قدر طاقته، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك وكل أمر يعتذر منه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ولا تتكلم بكلام تعتذر منه".
وقد قيل: إياك وعزة الغضب فإنها تفضي إلى ذل ‌الاعتذار. وقال الشاعر:
وإذا ما اعتراك في الغضب العزة       فاذكر تذلل ‌الاعتذار

قبول الأعذار من شيم الكرام
ومن المروءة وكرم النفس أن يقبل الكريم اعتذار المخطئ وأن يقيل عثرته.
هؤلاء إخوة يوسف عليه السلام حين عرفوه ورأوا ما من الله به عليه وتذكروا ذنبهم قالوا معتذرين: {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}(سورة يوسف: 91). فما لامهم ولا عنفهم، بل قبل اعتذارهم وأقال عثرتهم ودعا لهم: {قال لا تثريب عليكم اليوم ۖ يغفر الله لكم ۖ وهو أرحم الراحمين}(سورة يوسف: 92).

اعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى، فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب.
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يروى عنه : لو أن رجلا شتمني في أذني هذه، واعتذر إلي في الأخرى لقبلت عذره.
ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله : إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبشر.
واعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: تقدمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيئة حسنتين.

نحتاج أن نتقن فن الاعتذار، فكم من عداوات كان يمكن تجنبها بكلمة اعتذار، وكم من بيوت تهدمت لغياب ثقافة الاعتذار، وكم من نفوس تغيرت وصدور أوغرت حين غابت عن بعضنا شجاعة الاعتذار.
نسأل الله تعالى أن يعفو عنا ويقيل عثراتنا وأن يتجاوز عن سيئاتنا إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة