يقظة القلب

0 482

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-:
ومن الناس من يعيش شقيا … جيفة الليل غافل اليقظه
فـإذا كــان ذا حــياء ودين … راقب الله واتقى الحفظه
إنمــا الناس ســائر ومقـيم … والذي سـار للمقيم عظه

منزلة اليقظة أول منازل السائرين في منازل العبودية لله رب العالمين، وما أعظمها من منزلة!!.
حين يرى العبد أنه غارق في بحار الغفلة ومستنقع الشهوات ولجة المعاصي والسيئات، ويستيقظ فيشعر أنه بحاجة إلى رحمة مولاه، فيشتاق إلى سعادة ليس بعدها شقاء، حين يحس أنه فرط في جنب الله فيعد الأنفاس لئلا تضيع في غير طاعة الله.
قال العزي رحمه الله: "كأن اليقظة هي القومة لله، المذكورة في قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى}(سبأ:46)، فالقومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة".

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "اليقظة: أول منازل العبودية، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أقوى إعانتها على السلوك، فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه وتيقظ شمر بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى، فأخذ في أهبة السفر، فانتقل إلى منزلة العزم، وهو العقد الجازم على الشيء، ومفارقة كل قاطع ومعوق، ومرافقة كل معين وموصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته تكون عزيمته، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده، فإذا استيقظ أوجبت اليقظة الفكرة وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملا، ولم يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه، فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة، وهي نور في القلب يرى به حقيقة الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس قد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش، وقل الوارد، ونصب الجسر للعبور عليه، والنار تحطم بعضها بعضا تحته والساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه عين ترى ذلك، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها، والدنيا وسرعة انقضائها.
والبصيرة نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم. وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء، والتضرر به".

إن العبد إذا لم ينتبه في هذه الدنيا ويستيقظ قلبه ويتدارك ما فات قبل نزول الموت بساحته، فإنه يكون يوم القيامة من النادمين، قال الله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}(الأنعام: 31).

ولكنه ندم بعد فوات الأوان لا ينفع صاحبه، قال عز وجل: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}(المؤمنون: 99، 100).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "اعلم أن الإنسان ما دام يؤمل الحياة، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا؛ ليتوب ويعمل صالحا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت".
وقال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى-: "الويل كل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته".
وأكثر ما يندم عليه من وفقه الله لليقظة هذه الأعمال الصالحات التي فرط فيها، قال ابن عمر- رضي الله عنهما- لما بلغه حديث أبي هريرة في فضل اتباع الجنائز: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة).

إن المؤمن قد يصاب بالفتور، لكنه فتور عابر، سرعان ما يزول، ويكون بمثابة سحابة صيف يوشك أن تزول، ثم يعاود العمل، لكن البلاء أن تسكن النفوس للدعة والخمول، وتترك العمل والجد، فتقع فيما حذرنا منه ربنا - تبارك وتعالى - بقوله: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (الحديد: 20).

قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيرها: "يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة؛ فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ومعرفته ومحبته، وقد شغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي".

وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام العمر فيما يقرب من رضوان الله والجنة، فقال: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).

ويستعين العبد على ذلك بصحبة الصالحين وترك صحبة الغافلين البطالين، كما قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(الكهف: 27- 28).

إن يقظة القلب: أن يقوم من سباته وغفلاته مستشعرا قرب الأجل وقصر هذه الحياة وحقارتها وهوانها على الله، مشمرا عن ساعد الجد نحو المطالب العالية، وأخذ أوامر الله -تعالى- بقوة وحزم، فبحسب قوة يقظة القلب تكون قوة السلوك على الجادة، والمداومة على الاستقامة، ملازما للخوف من الله تعالى، فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.

أما والله لو علـم الأنـام .. .. لما خلقوا لما هجعوا وناموا
ممات ثم حشر ثم نشر .. .. وتوبــيخ وأهـــوال عـظـــام
ليوم الحشر قد عملت أناس . فصلوا من مخافته وصاموا
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة