- اسم الكاتب:محمد بن عبد الله السحيم
- التصنيف:محاسن الأخلاق
إن من مظاهر سنة الابتلاء في التعامل البشري ذلكم العسر الذي يكون في التعامل مع هفواتهم الناشئة من تفاوتهم في الطباع والمدارك والأخلاق والدوافع والظروف المحيطة بهم؛ مما هو منضو في فلك السنة الربانية الواردة في قوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ۗ وكان ربك بصيرا}، والذي قد رتب على حسن التعامل معها وتخطيها بجميل الأخلاق أجر كريم مدخر؛ كان أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق".
هذا وإن من جليل الخلق الذي رغبت الشريعة في التحلي به، وامتطاء صهوة شرفه في التعامل مع أخطاء البشر والتسامي عن الهبوط لسفحها- التغافل الكريم الذي يترفع به المرء عن التنقير عن العيوب والمحاسبة على الأخطاء، ويبدي إزاءها تجاهلا وإغضاء؛ فلا يحقق فيها، ولا يدقق، ولا يستقصي، بل يجعلها بتغافله معدومة كأن لم توجد، أو قليلة لا تستحق الاهتمام؛ فهو خلق كريم جامع بين أمهات المحاسن، من الفطنة، والحلم، والرفق، والعفو، والحكمة؛ فالتغافل المحمود فضيلة تكمن بين رذيلتين:
رذيلة الغفلة والبلادة، ورذيلة التنقير والإشقاق.
ذلكم التغافل كان سجية أصفياء الله من أنبيائه وأوليائه؛ حكاها الله عن نبيه يوسف –عليه السلام-إثر إمعان إخوته في ظلمهم له، وتجنيهم عليه حين لم يكتفوا بتغييبه عن وجه أبيه بإلقائه في غيابة الجب، وحرمانه منه، بل كالوا له إفك تهمة السرقة في قولهم: { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل...} [يوسف: 77]، فما كان من خلقه الزاكي إلا أن جاد بمزنة التغافل الكريم، وأمر جراح إساءة ذوي القربى مرور الكرام المتغافلين حين أسرها في نفسه ولم يبدها لهم، وكأنها لا تعنيه.
وعلى درب الاقتداء ورث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الخلق الكريم...قال أنس بن مالك –رضي الله عنه-: " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ " (رواه مسلم)، وحين عاتب إحدى زوجاته لإفشائها سره ما استقصى في عتابه، بل {عرف بعضه وأعرض عن بعض} [التحريم: 3]. وعلى رسم الاهتداء سار عباد الرحمن الذين وصفهم الله بقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63]، وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} [الفرقان: 72]، قال الغزالي: " ستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين ".
وكما أن التغافل الكريم من محمود السجايا؛ فإنه من ضرورة التعامل الذي توجبه طبيعة الحياة التي فطرت على النكد والكبد، وما تقتضيه جبلة البشر الجهولة الظلومة؛ وذاك ما جعل العقلاء ينتخبون سجية التغافل الكريم أساسا في التعامل الناجح الذي تستقيم به أمور الحياة أيا كانت، كما قال محمد بن علي بن الحسين: " صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر ملء مكيال؛ ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل ". وقال ابن حبان: " من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب؛ كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء ". وقال بعض الحكماء: " وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل ".
إن للتغافل المحمود حلية تكسب صاحبها شرفا أدركته العرب بفطرتها إذ كانت قابعة في غياهب الجاهلية، فقالت في مثلها السائر: " الشرف في التغافل "، وقال حكيمها أكثم بن صيفي: " من شدد نفر، ومن تراخى تألف، والشرف والسرور في التغافل ". وما زال العقلاء يوصون بصون المقادر وتعزيزها بمعطف التغافل، قال جعفر الصادق: " عظموا أقداركم بالتغافل "، قال الحافظ زين الدين العراقي: " وهذا الكلام مما كان والدي - رحمه الله - يؤدبني به في مبدأ شبابي حين يرى غضبي من كلمات ترد علي ".
وتغافل عن أمور إنه *** لم يفز بالحمد إلا من غفل
والمروءة قرينة التغافل حين يحمد، بل هو عمادها الذي عليه تقوم، قال عمرو بن عثمان المكي: " المروءة التغافل عن زلل الإخوان "، وقال ابن القيم: " وأما مروءة الترك: فترك الخصام، والمعاتبة، والمطالبة، والمماراة، والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك، وترك الاستقصاء في طلبه، والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة ". وعبير ريح الكرم يفوح من حسن تغافل الكرام، قال سفيان بن عيينة: " ما استقصى كريم قط؛ ألم تسمع إلى قول الله –تعالى-: {عرف بعضه وأعرض عن بعض} [التحريم: 3]؟ ". ونفوس البشر مجبولة على محبة من لم يحص عليها المثالب؛ وذاك من أسرار انجذابهم إلى من يتغافل عن معايبهم، كما كان إحصاء تلك المعائب سبب نفارهم ممن أحصاها.
تغافل في الأمور ولا تناقش *** فيقطعك القريب وذو المودة
وكساء التغافل سابغ؛ يواري عيب صاحبه، ويظهر جميل خصاله؛ وذاك من أسباب سلامة دينه وعرضه، وسر من أسرار محبة الناس له، قال ابن سعدي رحمه الله: " ومن تغافل عن عيوب الناس، وأمسك لسانه عن تتبع أحوالهم التي لا يحبون إظهارها؛ سلم دينه وعرضه، وألقى الله محبته في قلوب العباد، وستر الله عورته؛ فإن الجزاء من جنس العمل ".
وذلكم التغافل أمارة استواء عقل ورشد، قال الشافعي - رحمه الله –:" الكيس العاقل هو الفطن المتغافل ". وقال ابن المقفع: " ما رأيت حكيما إلا وتغافله أكثر من فطنته ".
فبوابل التغافل يطفأ جمر الشرور، قال الأعمش: " التغافل يطفئ شرا كثيرا ". وقال المهلب بن أبي صفرة لولده: " إذا سمع أحدكم العوراء ( أي: الكلمة القبيحة )؛ فليتطأطأ لها؛ تخطه ". وقال ابن القيم: " إذا خرجت من عدوك لفظة سفه؛ فلا تلحقها بمثلها؛ تلقحها، ونسل الخصام نسل مذموم ".
وبلجام التغافل يدرك الأحمق المعتدي ضعة قدره وقبح فعله، ويسلم من مجاراته في حضيض السفه الهابط. جاء رجل، فشتم الأحنف بن قيس، فسكت عنه، وأعاد فسكت، فقال: والهفاه! ما يمنعه من أن يرد علي إلا هواني عليه.
ورياح التغافل تسرع مرور واردات السوء وخواطره حين تهجم على العقل بغية إضعافه؛ فيسلم من شرها، كما أرشد إلى ذلك ابن القيم بقوله: " ويتغافل عنها ما أمكنه؛ فإنها تمر بالمكاثرة والتغافل مرا سريعا، لا يوسع دوائرها؛ فإنه كلما وسعها اتسعت، ووجدت مجالا فسيحا، فصالت فيه وجالت، ولو ضيقها - بالإعراض عنها والتغافل - لاضمحلت وتلاشت ".
وذلك التغافل أقوم سبل العافية والراحة النفسية من رهق المناكد والمخاصمات، كما أنه من أعظم العون على التفرغ للمهم من الشأن، قال محمد بن عبدالله الخزاعي: " سمعت عثمان بن زائدة، يقول: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل، فحدثت به أحمد بن حنبل، فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل ".
ولأجل ما انضم في التغافل من راقي القيم والمعاني كان صاحبه جديرا بالسيادة في قومه، قال أيوب السختياني: " لا يسود العبد حتى تكون فيه خصلتان: اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم ". ولا غرو في ذلك؛ إذ عز التغافل فرع ناشئ من أصل عز العفو الذي ما زاد الله صاحبه به إلا عزا.
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
أيها المسلمون! ولئن كان حمد التغافل مع أخطاء الناس ومعايبهم محمودا مشهودا؛ فإنه مع ذي الفضل والقرابة ومن يدوم تعامله أحق وأحمد؛ إذ لا بقاء لحفظ حبل الوصل والود إلا بوثاق التغافل، وإلا كان الصرم والوهاء عقبى ذلك الحبل. هذا وإنما يحمد التغافل فيما لا يغلب ضرر تجاهله، وتكون مفسدة إغفاله أكبر من مصلحة إحصائه وذكره؛ وذلك في ترك الواجبات وإقرار المحرمات، كالإغضاء عن بيان الحق الواجب، وإنكار المنكر، وإقرار الباطل، مع مراعاة فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رتبة وأسلوبا، والأخذ بسلم الأولويات التي جاء برعيها الشرع الحنيف.
ولا تسألن عما عهدت وغض عن *** عوار إذا لم يذمم الشرع ترشد