- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان بالله
من المعلوم عند أهل السنة أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. قال الإمام ابن بطة في كتابه "الإبانة": "أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته (توحيد الربوبية).. والثاني: أن يعتقد وحدانيته (توحيد الألهية).. والثالث: أن يعتقده موصوفا بالصفات (توحيد الأسماء والصفات)". وقال الشيخ ابن عثيمين: "وأنواع التوحيد بالنسبة لله عز وجل تدخل كلها في تعريف عام وهو: إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به. وهي حسب ما ذكره أهل العلم ثلاثة: الأول: توحيد الربوبية. الثاني: توحيد الألوهية. الثالث: توحيد الأسماء والصفات. وعلموا ذلك بالتتبع والاستقراء والنظر في الآيات والأحاديث".. وتوحيد الربوبية يقصد به إفراد الله سبحانه بأفعاله، والتي منها: الخلق، والرزق، والملك، والتدبير، والعطاء، والمنع، والضر، والنفع، والخفض، والرفع، والإعزاز، والإذلال، والإحياء، والإماتة، وغير ذلك.. قال ابن تيمية: "الرب سبحانه هو المالك، المدبر، المعطي، المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، المعز، المذل". وقال ابن القيم: "والرب هو السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح، والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها". وقال الشيخ ابن عثيمين: "توحيد الربوبية هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك، والتدبير". فتوحيد الربوبية: هو الإيمان بأن الله عز وجل هو رب المخلوقات وخالقها ورازقها والمدبر لشؤونها، وأنه تعالى القادر على كل شيء، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، وأنه القاهر فوق عباده، دلت على ذلك آياته في الآفاق وفي الأنفس.
وتوحيد الله عز وجل في ربوبيته ـ جبل عليه الخلق جميعا، وهو أمر لا شك ولا جدال فيه عند أصحاب العقول السليمة والفطر السوية، وأما من تعرض للانحراف والانتكاس حتى اقتلعت الفطرة السليمة من قلبه، وأنكر وجود وربوبية الله عز وجل، فإنه يحتاج إلى البحث والتأمل في داخل نفسه، والنظر في الدلائل الكونية والآيات القرآنية، وسيجد الكثير والكثير من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على وجود وربوبية الله عز وجل. قال ابن تيمية: ''إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة''.
القرآن الكريم وتوحيد الربوبية:
لم يكتف القرآن الكريم باستثارة الفطرة المقرة بوجود الله تعالى وربوبيته لجميع الخلق كما في قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}(الزخرف:87)، بل حفل بالأدلة العظيمة، والآيات الباهرة الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وعظمته سبحانه وتعالى، فكل ما في هذا الوجود من خلق وعناية بهذا الكون، وتسييره على أكمل نظام وحكمة، هو دلالة قوية وصادقة على وجود الله تعالى المدبر لهذا الكون. فالأدلة على وجود الله سبحانه وربوبيته وعظمته تعزز مكنون الفطرة، وتزيدها يقينا واستقامة. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "الإقرار بالخالق وكماله، كما يكون فطريا ضروريا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس، عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها". فطريق تحقيق توحيد الربوبية وتثبيته في النفوس هو منهج القرآن الكريم الذي يقود إلى النظر ويأمر بالتأمل والتفكر، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ قال الله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}(يونس:101). قال الطبري: "يقول تعالى: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك، الذين يسألونك الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا أيها القوم، ماذا في السموات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها، وتصدعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبرا، ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات".
2 ـ قال الله تعالى: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}(الجاثية:6:3). قال ابن كثير: "يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقا لأن به يحصل الرزق، {فأحيا به الأرض بعد موتها} أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء.. يقول تعالى: هذه آيات الله - يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات - {نتلوها عليك بالحق} أي: متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟!".
3 ـ قال الله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت}(الغاشية:20:17). قال الطبري: "أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قدرة الله على هذه الأمور، إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم وذللها وجعلها تحمل حملها باركة، ثم تنهض به، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار، يقول جل ثناؤه: أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القدرة التي قدر بها على خلقها، لن يعجزه خلق ما شابهها".
4 ـ قال تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر}(الطارق:8:5). قال ابن كثير: "{فلينظر الإنسان مم خلق} تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}(الروم:27). وقوله: {خلق من ماء دافق} يعني: المني، يخرج دفقا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله، عز وجل". وقال السعدي: "فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور والجزاء".
5 ـ قال الله تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الذاريات:20-21). قال السعدي: "يقول تعالى - داعيا عباده إلى التفكر والاعتبار -: {وفي الأرض آيات للموقنين}، وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها من جبال وبحار، وأنهار وأشجار، ونبات تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الواحد الأحد الفرد الصمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى".
6 ـ قال الله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}(آل عمران:190). قال ابن كثير: "يقول تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص {واختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال: {لأولي الألباب} أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها".
والآيات القرآنية الدالة على وجود الله عز وجل وقدرته وربوبيته لجميع خلقه كثيرة جدا..
فائدة:
أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، ولا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع من أقسام التوحيد هو خلل في التوحيد كله. فهي علاقة تلازم وتضمن وشمول. وتوحيد الربوبية أقر به عامة مشركي العرب وغيرهم، ولم يشذ منهم إلا القليل من أهل الإلحاد الذين كانوا ينكرون وجود الله. وهذا الإقرار من المشركين بربوبية الله عز وجل كان إقرارا ناقصا، ولو كان كاملا لقادهم الإيمان بربوبيته سبحانه إلى توحيده في ألهيته وإفراده بالعبادة، إلا أنهم رفضوا أن يفردوا الله بالعبادة، واستجازوا أن يجعلوا للمعبودات الباطلة نصيبا من عباداتهم وقرابينهم، بل تعجبوا من الرسل حينما دعوهم إلى ترك عبادة الأصنام والكفر بكل ما يعبد من دون الله، قال الله تعالى عنهم: {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}(الأعراف:70).. ومن ثم فالإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام والنجاة يوم القيامة، وذلك لإنه مع الإيمان والإقرار بتوحيد الربوبية، لابد من الإقرار بتوحيد الألوهية، وعبادة الله وحده لا شريك له.. والربوبية الحديثة عند بعض الملحدين ـ وهي اعتقاد وجود خالق للكون، ولكنه لا يرسل رسلا، ولا ينزل كتبا، ولا يجمع الناس في يوم الآخر ليجازيهم على أعمالهم ـ هي إنكار للوحي، والنبوات، والأديان، واعتماد على العقل المجرد في تأسيس العلاقة بالخالق! ولا ريب في أن من لم يؤمن بالقرآن الكريم، وبالأنبياء والرسل جميعا وعلى رأسهم أفضلهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبدين الإسلام، فإنه كافر حقا، ولو ادعى أنه مؤمن بوجود وربوبية الله، قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(آل عمران:85).
الأدلة والآيات القرآنية يحتاج إليها من تعرضت فطرته النقية بالإيمان بالله تعالى وربوبيته إلى التغير، فتأتي هذه الأدلة لتنبيه وتنقية الفطرة، وإيقاظها من انحرافاتها.. وقد سمع القرآن الكريم الكثير من العرب وغيرهم منذ بدء الإسلام وإلى يومنا هذا، وكانت لآياته الكريمة الأثر الكبير في إحياء الفطرة ومعالجتها من ظلمات الشرك والكفر، وما زالت هذه الآيات القرآنية سببا في هداية ـ من أراد الله هدايته ـ من الإلحاد إلى الإيمان، ومن غير دين الإسلام إلى الإسلام.. ولا غرابة أن يحدث القرآن الكريم هذا التأثير في النفوس، وقد قال الله تعالى عنه: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}(الحشر:21). قال ابن كثير: "يقول تعالى معظما لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} أي: فإن كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟! ولهذا قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}".