الرفق

0 359

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا شك أن الرفق نعمة عظيمة يمن الله بها على الموفقين من عباده، ومن نالها فقد نال خيرا عظيما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير".
إن الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف والحدة والفظاظة والقسوة والجفاء والتعسير، وهو سبب كل خير، لأن به تسهل الأمور، ويحصل المطلوب بأيسر طريق وأسلم أسلوب، وله فوائد جليلة في الفقه والدعوة، فهو يجمع القلوب ويجذب الناس إلى دين الله، ويرغبهم فيه، وينمي روح المحبة والتعاون بينهم، وينشئ مجتمعا سالما من الغل والعنف ، ويثمر محبة الله ومحبة الناس ، كما أنه دليل على فقه العبد وحكمته وصلاحه وحسن خلقه، من أجل هذه الفوائد وغيرها أرشد الله نبيه إليه فقال له: { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } أي: لو كنت قاسيا جافا ما تألفت حولك القلوب، ولا تجمعت حولك المشاعر، وإذا كان مثل هذا الكلام يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان عنوانا للرحمة والرفق فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟!.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق فقال: " إن الله يحب الرفق في الأمر كله " ، ثم بين أن الرفق باب لكل خير فقال " من يحرم الرفق، يحرم الخير " ، كما بين أنه زينة العمل فقال: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ".
قال النابغة:
الرفق يمن والأناة سلامة     فاستأن في رفق تلاق نجاحا

من صور الرفق:
1- الرفق بالنفس في أداء العبادات:
المسلم لا يحمل نفسه من العبادة مالا تطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة ".
وعن عائشة رضي الله عنها: أن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد ابن عبد العزى مرت بها، وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقلت: هذه الحولاء بنت تويت. وزعموا أنها لا تنام بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنام بالليل؟، خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا".
قال ابن القيم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم).

2- الرفق مع الناس عامة:
ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع الناس بالسماحة، قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
قال ابن القيم: (من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).

3- الرفق بالرعية:
الراعي، سواء كان حاكما، أو رئيسا، أو مسؤولا، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم، ويؤدي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن شر الرعاء الحطمة".
(وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلا لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من الناس، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت، فشر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة، الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تلين سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفا وتحطيما، ويدفعهم دائما إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرفق والحكمة في الإدارة والسياسة).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرفق بالرعية، والإحسان إليهم، واتباع مصالحهم، وتولية من هو أهل للولاية، ودفع الشر عنهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ لأنهم مسئولون عنهم أمام الله عز وجل).
وقد بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله، فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا، النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقا فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله، ولا أغم من جهل إمام وخرقه.

4- الرفق بالمدعوين:
الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على الناس ولا يشق عليهم، ولا ينفرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف، (وأولى الناس بالتخلق بخلق الرفق الدعاة إلى الله والمعلمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة) قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125].
فيدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلطف مع العاصي بكلام لين وبرفق، ولا يعين الشيطان عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا، فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا- أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت؟ فإن ختم له بخير علمنا أن قد أصاب خيرا، وإن ختم بشر خفنا عليه).
وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام مع أبيه {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} [مريم: 46-47].
قال الشنقيطي: (بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق، والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ومن عذاب الله تعالى، وولاية الشيطان، خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت، وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان، أي: معرض عنها لا يريدها؛ لأنه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه، قيل: بالحجارة، وقيل: باللسان شتما، والأول أظهر، ثم أمره بهجره مليا، أي: زمانا طويلا، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين، في قوله: { سلام عليك سأستغفر لك ربي...} [مريم: 47] ).

5- الرفق بالخادم والمملوك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق".
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الخدم: "إخوانكم خولكم (أي: خدمكم الذين يلون أموركم ويصلحونها من المسلمين فهم إخوانكم في الدين)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه".
قال الشنقيطي رحمه الله: (فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم؛ كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن).

6- الرفق بالحيوان:
فمن الرفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
- "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر".

- وعن سعيد بن جبير قال: (مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا).
ومن الرفق بالحيوان ذبحه بسكين حاد حتى لا يتعذب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته (السكين الذي يذبح به)، وليرح ذبيحته".
الرفق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا بقومه رغم أذيتهم له، فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
- وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا في تعليمه للجاهل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تـزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه".
- وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
- كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يبين للناس الأمور بالرفق، ومن ذلك الشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنى، فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: "ادنه"، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم؟" قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
إن الرفق في الحقيقة هو الطريق لنيل كل محبوب ودفع كل مكروه، قال مسلم بن الوليد:
   ينال بالرفق ما يعيا الرجال به      كالموت مستعجلا يأتي على مهل
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الرفق في الأمور كلها، وأن يجنبنا موارد الهلكة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة