من أسباب اكتساب محاسن الأخلاق

0 56

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فمما لا شك فيه أن صاحب الخلق الحسن من أعلى الناس منزلة عند الله تعالى، ومن أعظمهم أجرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق "رواه الترمذي.

وإذا كان الأمر كذلك فحري بالعبد أن يسعى في اكتساب محاسن الأخلاق وأن يتخلى عن مساوئ الأخلاق.
وإذا كان مستقرا في نفوس بني آدم أن تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس من أشق وأصعب الأمور، لكن ذلك ليس متعذرا ولا مستحيلا.
بل إن العبد إذا أخذ بالأسباب وجاهد واجتهد وفقه الله تعالى لاكتساب محاسن الأخلاق.
ومن هذه الأسباب:
أولا: سلامة العقيدة:
فشأن العقيدة عظيم، وأمرها جلل؛ فالسلوك- في الغالب- ثمرة لما يحمله الإنسان من فكر، وما يعتقده من معتقد، وما يدين به من دين.
والانحراف في السلوك إنما هو ناتج – في الغالب - عن خلل في المعتقد.
ولا شك أن هناك ارتباطا وثيقا بين الأخلاق والإيمان، فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا؛ فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق من صدق، وكرم، وحلم، وشجاعة، ونحو ذلك. وهذه العقيدة الصحيحة تمنعه من كثير من مساوئ الأخلاق من طغيان وكذب وكبر وجهل وظلم، وغيرها.

ثانيا: الدعاء:
فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات.
فمن رغب بالتحلي بمكارم الأخلاق، ورغب بالتخلي عن مساوئ الأخلاق- فليلجأ إلى ربه، وليرفع إليه أكف الضراعة ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيئه.
ولهذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- كثير الضراعة إلى ربه يسأله أن يرزقه حسن الخلق، وكان يقول في دعائه: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت"رواه مسلم.
وكان من دعائه: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء"رواه الترمذي.

ثالثا: المجاهدة:
فالمجاهدة تنفع كثيرا في هذا الباب؛ ذلك أن الخلق الحسن نوع من الهداية، ومن أسباب حصولها للعبد المجاهدة.
قال عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت:69].
فمن جاهد نفسه على التحلي بالفضائل، وجاهدها على التخلي من الراذئل حصل له خير كثير، واندفع عنه شر مستطير؛ فالأخلاق منها ما هو غريزي فطري، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالدربة والممارسة.
والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرتين أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله- تبارك وتعالى- يقول: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99].

رابعا: المحاسبة:
وذلك بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقا ذميمة، وحملها على ألا تعود إلى تلك الأخلاق مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب إذا أحسنت، وأخذها بمبدأ العقاب إذا توانت وقصرت.
فإذا أحسنت أراحها، وأجمها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح.
وإذا أساءت وقصرت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد.
على أنه لا يحسن المبالغة في محاسبة النفس؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباضها وانكماشها.
قال ابن المقفع: ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلا، فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء السيل إلى الحدورة(المنخفض من الأرض).

خامسا: الحذر من اليأس من إصلاح النفس:

فهناك من إذا ابتلي بمساوئ الأخلاق ظن أن ذلك الأمر ضربة لازب لا تزول، وأنه وصمة عار لا تنمحي.
وهناك من إذا حاول التخلص من عيوبه مرة أو أكثر فلم يفلح، أيس من إصلاح نفسه، وترك المحاولة إلى غير رجعة.
وهذا الأمر لا يحسن بالمسلم، ولا يليق به أبدا؛ فلا ينبغي له أن يرضى لنفسه بالدون، وأن يترك رياضة نفسه زعما منه أن تبدل الحال من المحال.
بل ينبغي له أن يقوي إرادته، ويشحذ عزمته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجد في تلافي عيوبه؛ فكم من الناس من تبدلت حاله، وسمت نفسه، وقلت عيوبه؛ بسبب دربته، ومجاهدته وسعيه، وجده، ومغالبته لطبعه.
قال ابن المقفع: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين، والأخلاق، وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره، أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة أو الخلتين في اليوم، أو الجمعة، أو الشهر.
فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر..

سادسا: التحلي بعلو الهمة:
فعلو الهمة يستلزم الجد، والإباء، ونشدان المعالي، وتطلاب الكمال، والترفع عن الدنايا، والصغائر، ومحقرات الأمور.
والهمة العالية لا تزال بصاحبها تضربه بسياط اللوم والتأنيب، وتزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد.
قال ابن القيم رحمه الله: فمن علت همته، وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.
وقال- رحمه الله: فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة.
والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل.
والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك.
فإذا توفر المرء على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلا، ويبقي لها الذكر الجميل آجلا- لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام، ويرتقي إلى النهاية من الكمال، فيحوز السعادة الإنسانية، والرئاسة الحقيقية، ويبقى له حسن الثناء مؤبدا، وجميل الذكر مخلدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة كتاب: الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة