الموازنة بين المصالح المتعارضة في السنة النبوية

0 236

مما أجمع عليه العلماء قديما وحديثا، أن الشريعة جاءت لحفظ مصالح العباد العاجلة والآجلة، فكل حكم أو تشريع فهو لتحقيق هذا المقصد العام، وفي حال تزاحمت المصالح ولم يمكن جلبها كلها فالمطلوب هو تحقيق أعلاها، وإن تزاحمت المفاسد وتعين ارتكاب بعضها فإنه يتعين دفع أعلاها بارتكاب أدناها، وإن تساوت المصالح والمفاسد فدفع المفسدة أولى من إحراز المصلحة، وإن تفاوتت كان للعلماء موازينهم الدقيقة التي يرجحون بها بين المصالح والمفاسد.

ونبدأ بالنوع الأول وهو الموازنة بين المصالح المتعارضة، وذلك حيث لا يمكن المكلف تحقيقها كاملة، فالقاعدة أن يحقق أعلاها، وإدراك مراتب المصالح إنما هو بنظر الشارع، وليس متروكا للنظر المجرد، وقد دلت السنة على هذه القاعدة في مواضع كثيرة، نقف على بعضها حتى يستبين هذا الأصل بتطبيقات نبوية واضحة، وتكون حجة لكل من يسلك هذا الباب بضوابطه وشروطه:

 الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلي الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. رواه البخاري ومسلم

فمصلحة زجر الأعرابي عن البول في المسجد مرجوحة في مقابل مصالح أخرى تتمثل في الحفاظ على المسجد من انتشار النجاسة فيه، ومصلحة الحفاظ على صحة الأعرابي مما قد يتسبب له انقطاع البول من ضرر بدني.  

 قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: لم ينكر النبي صلي الله عليه وسلم على الصحابة ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهو.... تحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.أ. هـ

الحديث الثاني: عن حذيفة رضي الله عنه، قال: رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه، فأشار إلي فجئته، فقمت عند عقبه حتى فرغ رواه البخاري ومسلم.

 ووجه الاستفادة من الحديث أوضحها الحافظ بن حجر في فتح الباري بقوله: "يستفاد من هذا الحديث... الإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا، وبيانه أنه صلي الله عليه وسلم كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته؛ لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعي أهم الأمرين وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه؛ ليستره من المارة، على مصلحة تأخيره عنه إذ لم يمكن جمعهما". أ. هـ

 وقد أفادنا كلام الحافظ رحمه الله أن التباعد عند قضاء الحاجة مصلحة، ويحصل بها التستر عن أعين الناس، وقد كان هذا من هدي النبي صلي الله عليه وسلم، ولكن لما كان التباعد في بعض الحالات يفوت مصلحة الجلوس للاشتغال بمصالح الأمة، والإكثار من زيارة النبي صلي الله عليه وسلم لأصحابه، فالنبي صلي الله عليه وسلم ترك مصلحة التباعد لتقديم مصلحة أكبر، واستعاض عن التباعد بتقريب حذيفة رضي الله عنه منه.

 قال ابن الملقن في كتابه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: "لم يبعد صلي الله عليه وسلم لأجل شغله بأمور المسلمين؛ فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول ولم يمكنه التباعد كعادته، وأراد السباطة لدمثها وإنما استدناه صلي الله عليه وسلم عن أعين الناس ليستتر به عنهم". أ. هـ 

الحديث الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم ، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: اخرج معها رواه البخاري ومسلم

قال النووي في شرحه على مسلم: "وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة، فإنه لما عرض له الغزو والحج رجح الحج؛ لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو، والله أعلم" أ. هـ

ففي الحديث تزاحم مصلحتين إحداهما أرجح من الأخرى، فالخروج للغزو مصلحة، ولكن مصلحة حفظه لزوجته في السفر للحج أرجح؛ حيث لا يقوم مقامه غيره، وفي هذا دليل على ترجيح أعلى المصلحتين عند التعارض.
 
الحديث الرابع: حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان رواه البخاري ومسلم.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وفي الحديث تقديم أهم المصلحتين" أ.هـ، فمصلحة الصلاة بهم جماعة ترجحت عليها مصلحة الرفق بهم وبمن جاء بعدهم من الأمة، بأن لا تفرض عليهم صلاة التراويح، وذلك من كمال رحمته ورأفته بأمته صلى الله عليه وسلم.

الحديث الخامس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي، فجاءته أمه، فدعته، فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي، ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتنن جريجا، فتعرضت له، فكلمته فأبى، فأتت راعيا، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما فقالت: هو من جريج، فأتوه، وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلا من طين  رواه البخاري ومسلم.

قال الحافظ بن حجر في الفتح: "في الحديث أ ن الأمرين إذا تعارضا بدئ بأهمهما". أ. هـ 
فقوله "أمي وصلاتي" يوضح لنا موضع تعارض المصلحتين لدى هذا العابد، فقد اشتبه عليه أيهما أحق بالتقديم، هل يقدم مصلحة بره بأمه بإجابتها، أو مصلحة إكمال صلاته النافلة، فأداه اجتهاده القاصر إلى تقديم المصلحة الأدنى على المصلحة الأعلى ومضى في صلاته، ولا غرابة فإنه كان عابدا مجتهدا في العبادة، ولم يكن عالما بمراتب المصالح، ولا دراية له بأن الواجب مقدم على الندب، وقد كان ذلك سببا في ابتلائه بما ذكر في الحديث، غير أن الله أنجاه بعد ذلك بتقواه ودينه.

فهذه جملة من الأحاديث التي تدل على مبدأ الموازنة بين المصالح المتعارضة، وهو أصل اجتهادي يأخذ شرعيته من الكتاب والسنة، ولذلك فإن العلماء يوازنون بين المصالح المتعارضة بما استفادوه من هذه الإشارات النبوية، وفي الكتاب والسنة حجة لكل أصول الاجتهاد ومسالكه، ولا سيما في السنة النبوية بما لها من وظيفة شارحة ومبينة.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة