- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:علم العقيدة
العلوم الشرعية كلها متمايزة فيما بينها في موضوعاتها وغاياتها؛ إلا أنها مع ذلك بينها من التداخل والترابط الشيء الكثير، وعلم العقيدة واحد من تلك العلوم، له موضوعه وغايته؛ إلا أنه يرتبط بغيره من علوم الشريعة ارتباطا وثيقا أيضا، وسبب ذلك الترابط والتداخل بين العلوم الإسلامية أنها كلها تدور وتتمحور حول النص الشرعي سواء في العقيدة، أم في الفقه، أم في أصول الفقه والتفسير، وغيرها من العلوم.
ويمكن إظهار علاقة التداخل بين علم العقيدة والعلوم الشرعية الأخرى من خلال الأنماط الأربعة الآتية:
أولا: التداخل الاستمدادي: يقصد بالتداخل الاستمدادي أن العلوم الشرعية يحتاج بعضها إلى بعض في تكميل متطلباتها البحثية، ولا يوجد علم مستقل بكل البحوث التي تندرج فيه من غير أن يحتاج إلى علم آخر يعينه ويساعده في تكميل النظر والتدقيق في بعض مكوناته، وعلم العقيدة واحد من تلك العلوم، يستمد من عدد من العلوم، ففيه مواد مستمدة من الكتاب والسنة، وفيه مواد مستمدة من العقل والفطرة، ومواد مستمدة من علوم العربية، وغير ذلك.
ثانيا: التداخل التحصيلي: ويقصد بالتداخل التحصيلي أن العلوم الشرعية مترابطة ومتداخلة، ولا يمكن للمرء أن يفهم علما تمام الفهم دون أن يكون لديه إدراك لأصول العلوم الأخرى، فلا يوجد علم شرعي مستقل بذاته يمكن للمرء أن يحصله دون أن يدرك شيئا عن غيره من العلوم، وفي هذا الصدد يقول الطوفي: "فإن العلوم والفنون والمسائل يمد بعضها بعضا، ويبرهن في بعضها على بعض، فمن جهل فنا، نقص عليه مادة فن آخر، ولهذا تزيد مادة العلم في فن بتحصيله فنا آخر، فإذا عرف الكلام والمنطق ونحو ذلك من المعقولات، ظهر أثر ذلك في صحة تصوره للحقائق، وتقريره للأدلة وتركيبه للأقيسة، وإذا عرف الحساب والهندسة، ظهر أثر ذلك في مهارته في الفرائض والوصايا، واستخراج المجهولات، وعلى هذا فقس".
ويقول طاشكبري زاده في سياق وصاياه لطالب العلم: "عليه أن لا يدع فنا من فنون العلم إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على غايته ومقصده وطريقته"، وكلام العلماء في هذا الأمر كثير ومشهور لا سيما عند حديثهم عن شروط الفقيه والمفسر والمفتي ونحوهم.
وهذا الأمر واقع في علم العقيدة أيضا، ومن ذلك أثر معرفة قدر من علم الهيئة والفلك في حل بعض معضلات الصفات، فمن ذلك مثلا تبيين صفة العلو والنزول لله تعالى، حيث يقول ابن تيمية رحمه الله: "والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه؛ فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون، وإنما البدعة السؤال عن الكيفية، ومن أراد أن يزداد في هذه القاعدة نورا فلينظر في شيء من الهيئة، وهي الإحاطة والكروية، ولا بد من ذكر الإحاطة ليعلم ذلك..."، ثم أخذ يتكلم عن كروية الأرض وما يتعلق بالأفلاك لشرح معاني العلو والنزول.
ثالثا: التداخل الموضوعي: أي أن ثمة موضوعات تبحث في عدد من العلوم الشرعية لكونها متعلقة بها جميعا، وهذا النمط من التداخل من أظهر أنواع التداخل بين العلوم الشرعية وأشهر أشكالها، فمن ذلك: مسألة المتشابه والنسخ فإنها تبحث في التفسير وفي أصول الفقه أيضا، وكذا دلالات الألفاظ ومعاني الحروف فإنها تبحث في علم اللغة وعلم أصول الفقه أيضا، وإن كان اختصاص بعض تلك الموضوعات والمسائل ببعض العلوم أكثر منه من غيرها كمسألة النسخ مثلا فهي من مسائل أصول الفقه، ويأخذها علماء التفسير في التفسير مسلمة من ذلك العلم، ومن المسائل المتداخلة بين علم العقيدة وغيره: مسألة الحقيقة والمجاز، ومسألة القطعي والظني، فإنها تبحث في أصول الفقه وفي العقيدة أيضا.
رابعا: التداخل التأثيري: أي أن العلوم الشرعية يؤثر بعضها في بعض من جهة تقرير المسائل والدلائل، وقد يكون ذلك التأثير مذموما وقد يكون محمودا، وقد يكون كثيرا وقد يكون قليلا، ومن ذلك تأثر عدد من الفروع الفقهية وعلم التفسير بما يقرر في علم العربية، ومع أن التأثر والتأثير واقع في كل العلوم الشرعية؛ إلا أن علم العقيدة هو العلم الذي سيطر على العلوم بالتأثير الأقوى، لدرجة أن العلوم الأخرى تكاد تكون كلها متأثرة به، وما ذاك إلا لأن علم العقيدة متعلق بأصل الدين الذي هو الأساس الذي يبني الإنسان عليه تصوراته ومواقفه الأخرى، أي أن ما يقرر في علم العقيدة له أعظم الأثر في غيره من العلوم، وفي هذا يبين السمرقندي أن أي كتاب إنما يبني مؤلفه تصوراته فيه بناء على عقيدته فيقول عن علم أصول الفقه مثلا: "اعلم أن علم أصول الفقه والأحكام فرع لعلم أصول الكلام، والفرع ما تفرع من أصله، وما لم يتفرع منه فليس من نسله، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف في هذا الباب على اعتقاد مصنف الكتاب"، وكان علم التفسير من أكثر العلوم التي تأثر بما يقرر في العقيدة من أصول، ومن أظهر الشواهد على ذلك أن كل طائفة من الطوائف العقدية عمدت إلى تأليف عدد من التفاسير للقرآن، فالمعتزلة لهم تفاسير متعددة للقرآن، وكذلك الأشاعرة، والماتريدية، والصوفية، والشيعة وغيرهم.
وإضافة على تأثير علم العقيدة الكبير في غيره من العلوم؛ إلا أنه قد تأثر هو بغيره من العلوم أيضا، ومن أشهر العلوم التي تأثر بها علم العربية، فإن كثيرا من قضايا اللغة المتعلقة بدلالات الألفاظ وغيرها كان لها حضور مؤثر في كثير من التقريرات العقدية إما على جهة التأسيس والبناء الصحيح، وإما على جهة الاستثمار الخاطئ لنصرة المقالات المنحرفة، فكثير من المبتدعة استثمروا الاحتمالات الواقعة في دلالات الألفاظ والتعدد المتحقق في تراكيب اللغة لنصرة أقوالهم والتخلص من مواجهة النصوص الشرعية، ومن ذلك أن ابن جني قد عقد فصلا في كتابه الخصائص قال فيه: "باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية" ذكر فيه عددا من الأمثلة التي يمكن أن تخرج على التعدد الدلالي في الألفاظ.