- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مقدمات في السيرة النبوية
اليأس محطم للآمال ومثبط للعزائم، وهو حالة نفسية تعتري الإنسان تحت شدة الفتن والمحن، وكثرة الابتلاء، وتسلط الأعداء والظالمين، وقد يصل اليأس بصاحبه إلى القنوط وانقطاع الأمل، وفي ذلك سوء ظن بالله عز وجل، قال الله تعالى: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}(يوسف:87). قال ابن كثير: "ندب (يعقوب عليه السلام) بنيه على الذهاب في الأرض، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين..ونهضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله، أي: لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون".
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان متفائلا في كل أموره، واثقا بربه في جميع أوقاته، محسنا به الظن في كل أحواله، وكانت حياته ـ رغم ما فيها من شدة وبلاء ـ مليئة بالأمل والتفاؤل، وحسن الظن بالله، وقوة اليقين بنصر الله، وكان دائما يبشر أصحابه بالنصر والأمن، والغنى والسعة، رغم ما بهم من بلاء وفقر واستضعاف.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي! هل رأيت الحيرة (بلد ملوك العرب الذين تحت حكم آل فارس)؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، فقال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة (المرأة) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله، ـ قلت في نفسي: فأين دعار طيئ (قطاع الطريق واللصوص) الذين سعروا في البلاد؟! ـ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى (ملك فارس)، قلت: كسرى بن هرمز!!، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدا يقبله منه) رواه البخاري. قال عدي: "فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة)".. ولم تكن هذه البشارات التي يبشر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، مخفية مستورة، بل كانت معلنة ظاهرة، يعلمها الكفار كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب (من أشد المعاندين والمستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم) وجلساؤه، إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون.
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة (واضع رأسه بردة وهي كساء مربع) له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري. ففي أشد المواقف وأصعبها كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس المبتلين والضعفاء والمضطهدين الأمل والبشرى واليقين بفرج الله ونصره لعباده المؤمنين.
والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحداث التي تبين مدى التفاؤل والأمل، والثقة واليقين بنصر الله عز وجل، الذي كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم ويغرسه في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم، ومن ذلك:
1 ـ الهجرة النبوية: في الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب الظاهرة والمتاحة، إلا أن المشركين انطلقوا خلفه يرصدون الطرق، ويفتشون في الجبال، حتى وصلوا إليه وهو غار ثور، حتى سمع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه سير أقدامهم وكلامهم، وهنا خاف أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا! فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري. قال النووي: "معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(النحل:128)". وقال ابن الجوزي: "وقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أي: بالنصرة والإعانة، أفتظن أن يخذلهما، فرده من النظر إلى الأسباب إلى المسبب". وقال الشيخ ابن عثيمين: "فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، لأننا في الغار تحته، فقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وفي كتاب الله أنه قال: {لا تحزن إن الله معنا}(التوبة40)، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وقال: {لا تحزن إن الله معنا}. فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟ والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن أعز ولا معز لمن أذل: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}(آل عمران:26)"
2 ـ غزوة بدر: مع أن المعادلة العسكرية في غزوة بدر لم تكن متكافئة، فقريش كان عددها ألفا، معهم مائتا فرس، في حين كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وما كان معهم إلا فرسان، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه غارسا فيهم الأمل والتفاؤل والوثوق واليقين بنصر الله عز وجل لهم، رغم أنهم أقل في العدد والعدة من عدوهم: (سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم).
3 ـ غزوة الأحزاب: رغم ما حدث للمسلمين في غزوة الأحزاب من تعب شديد في حفر الخندق، وجوع وخوف وشدة برد، وحصار المشركين لهم في المدينة، وخيانة اليهود، وتخذيل المنافقين وإرجافهم، واشتداد الكرب، حتى قال الله تعالى مصورا حالهم حينئذ: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}(الاحزاب:9-11)، ـ رغم ذلك كله ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في أصحابه التفاؤل والأمل، والثقة واليقين بنصر الله عز وجل، ويعدهم ويبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: باسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) رواه أحمد. ولما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه البشريات قال المنافقون: إن محمدا يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، ولا يأمن أحدنا أن يخرج إلى قضاء حاجته. وقد نصر الله عز وجل المسلمين في غزوة الأحزاب انتصارا عظيما، وتحقق لهم كل ما بشرهم به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قوله صلى الله عليه وسلم: "(والذي نفسي بيده، ليفرجن الله عنكم ما ترون من شدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله)".
4 ـ غزوة خيبر: عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى خيبر فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم (آلات زراعية)، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس (الجيش)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) رواه البخاري. قال ابن حجر في "فتح الباري": "قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم أخذ منه أن مدينتهم ستخرب".
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف التي تبعث على البشرى والتفاؤل، وتجدد الأمل، وتقوي اليقين، وتؤكد على حصول التمكين لأمتنا، والنصر لها على أعدائها، على الرغم مما عانته وتعانيه من ابتلاءات في بعض المراحل والأوقات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها) رواه مسلم. فالتفاؤل والأمل من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وهما ـ التفاؤل والأمل ـ نبراس يضيء الطريق والحياة، وفجر ساطع في دياجير الكربات والابتلاءات، وعلى ذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا يرون أن المحن والابتلاءات ليست إلا سحابة عن قليل ستزول وتنقشع بفضل الله تعالى ورحمته، قال الله تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا}(الشرح: 6:5)، قال السعدي: "بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر، فأخرجه كما قال تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسرا}(الطلاق:7)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا)". فكل شدة فرجها آت وقريب، فالله عز وجل بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه الذي يكشف الضر، ويجعل بعد العسر يسرا، وبعد الضيق فرجا ومخرجا لكل أزمة ومحنة، قال الله تعالى: {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}(يوسف:110).. وليس المقصود بالبشرى والأمل في سيرة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الاستسلام للمحن حتى يأتي الفرج، لكن المقصود هو النظرة إلى المحن والابتلاءات بعين الأمل الذي يبعث على العمل، لا بعين اليأس الذي يدفع إلى الإحباط والكسل، ومن ثم فالمسلم يظل متمسكا بدينه ثابتا عليه، مؤديا لواجبه في العمل على نصرة الإسلام وإن كثرت المحن والشدائد، قال الله تعالى: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}(آل عمران:171)، وقال تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(الأنفال:60).
السيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحداث التربوية، التي نحتاج أن ننهل منها ونستضيء بنورها في حياتنا، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل".