تحذير الداعين.. من غفلة الصالحين

0 214

 "غفلة الصالحين"مصطلح تواضع عليه علماء الحديث قديما، ويقصدون به بعض العبـاد من الصالحين، الذين غلب عليهم جانب العبادة فشغلهم عن حفظ الحديث وضبط حروفه وألفاظه، ومع ذلك لم يصبروا عن التحديث فوقع منهم الخطأ والوهم.

ومن تتبع هذه اللفظة بهذا المعنى علم أنها ليست للمدح قطعا، وإنما هي من القوادح التي تنزل من مقام صاحبها في الرواية والتحديث، وأشهر من وصفه العلماء بذلك هو "رشدين بن سعد" رحمه الله تعالى.. قال ابن حجر في تقريب التهذيب: ضعيف.. ونقل في التهذيب عن ابن يونس قوله فيه: "كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث".

وممن وصف بهذا أيضا سعد بن سعيد الملقب بسعدويه الجرجاني كما جاء في لسان الميزان1425 : "وقال ابن عدي دخلته غفلة الصالحين".. ومنهم أيضا عباد بن عباد أبو عتبة الخواص كما جاء في المجروحين 1217: "كان ممن غلب عليه التقشف، حتى أغضى عن تعهد الحديث فأخذ يهم إذا روى، ويخطئ إذا حدث".

وللتنبيه فإن هذا الوصف لا ينقص من دين الإنسان ولا يطعن فيه من جهة الصيانة والعبادة، بل هو أقرب للمدح في هذه الجهة، وإنما ينصب القدح في جهة عدم الحفظ والرواية..
قال الذهبي في الميزان عن رشدين نفسه: "كان صالحا عابدا سيئ الحفظ غير معتمد".. وروى الميموني عن الإمام أحمد أنه قال عنه: "رشدين بن سعد ليس يبالي عن من روى لكنه رجل صالح".
وقد أراد بعض الأكابر أن يقيد اللفظ فيقال: (غفلة بعض الصالحين) حتى لا يكون ذما لجميع الصالحين، ورد عليه بأن هذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، وبأن المقصود بيان الحال في جهة معينة.

عموما.. كان هذا الوصف قديما في جانب الحديث، وفي زماننا فتح باب الغفلة فشمل جوانب أخرى كثيرة حتى اتسع الخرق على الراقع.. والمستعان الله.

لقد أصابت غفلة الصالحين الكثيرين؛ فوقعوا في فخاخ أعدت لهم مسبقا، بعضها واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وتكلم البعض بكلام أشبه ما يكون بالهذيان، وصرح البعض بما حقه في هذا الوقت تمام الكتمان، واسترسل البعض فيما جر إليه جرا، وسقط في فخ نصب إليه قصدا.. وكانت هناك مواقف لا يدرى كيف وصفها، غير أننا إذا أردنا التأدب وحسن الظن لن نجد أحسن من وصفها بـ "غفلة الصالحين".

ذكاء الدعاة
إن العالم المسلم والداعية المتحرك بدعوته ينبغي أن يكون أذكى الناس وأبصرهم بالعواقب ومآلات الأمور، وهو فن وعلم يجب أن يكون أفضل من يتقنه أهل الله؛ فصناعة الورطات للناس أصبحت فنا، ونصب الفخاخ صار شيئا أشبه بالعلم والتخصص، كما أن الخروج منها أيضا فن وعلم وذكاء.. وبالطبع قبل كل هذا توفيق من رب الأرض والسماء.

وفي زماننا أصبحت الأضواء مسلطة على المنتسبين ـ حقا أو ظاهرا ـ للإسلام أو من يسمون في مصطلح أهل زماننا "بالملتزمين"، وكلما كان الإنسان بالإسلام ألصق وأكثر التزاما زاد تسليط الضوء عليه، والتمست له الأخطاء، وعدت عليه الهفوات، وضخمت الزلات.. وللمتصدرين للدعوة والفتوى الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من كل هذا.
ولما كان الأمر كذلك وجب أن ينتبه هؤلاء ـ كل بحسبه ـ وأن يلزموا اليقظة، وأن يكونوا أبعد شيء عن الغفلة.

لا للاتهام
ومشيا مع اصطلاح المحدثين فإن جميع هؤلاء لا يتهمون في دينهم وإخلاصهم وولائهم لله ولدينه، بل يمدحون على جهدهم، ويشكرون على سعيهم، ويشهر بين الناس فضلهم, إنما يخشى عليهم الوقوع في بعض الفخاخ المنصوبة، والانزلاق في بعض الحفر المصنوعة، والتساهل في بعض الأقوال، والتبسط في بعض الأعمال من باب حسن الظن، أو سلامة الصدر أو عدم توقع أن يبلغ الأمر ما بلغ.. وهو ما يطلق عليه "غفلة الصالحين".

وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن (المؤمن كيس فطن)، لبيب ذكي، أبعد ما يكون عن الغفلة والسذاجة، وأخبر أن (الحرب خدعة).. ونحن نعيش مع الباطل حربا حقيقية لا يصلح فيها الغفلة، ولا مكان لها فيها، فإن من غفل في المعركة لحظة فقد عمره، أو ربما فقد المعركة برمتها.

المسلم صادق مؤتمن، نعم.. لا يخادع ولا يخون، ولكنه أيضا لا يخادع ولا يتلعب به.. كما قال عمر رضي الله عنه: "لست بالخب، والخب لا يخدعني".
والمواقف التي تحتاج احتياط النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، وانتباه عمر الدائم، كثيرة خصوصا لمن يتعرضون للظهور أمام الجمهور ويسمعهم الحاضرون والمشاهدون.

الربط والضبط
إن كثيرا من الألسنة في زماننا تحتاج إلى ربط، وما كان السكوت في زمن أعز ولا أغلا منه في هذا الزمن، ومن أراد النجاة فليمسك لسانه فإن من صمت نجا.. فإذا لم يكن من الكلام بد لزم أن ينظـر إلى مواقعه، ويـتـفكـر في عواقبه.. فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل حق ينبغي قوله في كل وقت، وليس كل حق يصلح أن يقال لكل أحد، واختيار وقت الكلام لا يقل أهمية عن اختيار الكلام نفسه.

وكما أن كثيرا من الألسنة تحتاج إلى ربط، فإن كثيرا من الفتاوى تحتاج إلى ضبط، وحسن اختيار وقت، خصوصا وقد صدرت وسائل الإعلام من لا يستحق التصدر، ومن لا يحسن اختيار ما يقول، ولا استشراف مقصد السائل والمستفتي، فظهرت فتاوى ليس هذا زمانها، وعنتريات قادت إلى ورطات، مع تفصيل في موطن الإجمال، وتشقيق الكلام في مواطن الاختزال، دون نظر إلى تربص المتربصين، ومكر الماكرين.

والمواقف في معظمها تحتاج إلى استحضار قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (ياعائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم)(متفق عليه ).. وكذلك قوله لمن طلب منه قتل رأس المنافقين ابن سلول لما بلغ أذاه مداه: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).

وقد وعى الإمام ابن الجوزي رحمه الله الدرس حين نصب له أحد المغرضين فخا وهو يحدث الناس في جموع غفيرة، وربما أراد الوقيعة بينه وبين متنفذ صاحب هوى؛ فسأله على الملأ: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أبو بكر أم علي؟ فرد ابن الجوزي على البديهة: أحبهم إليه من كانت ابنته تحته.. وقام..
فما درى الناس هل أراد أبا بكر لأن ابنته عائشة تحت النبي صلى الله عليه وسلم، أم قصد عليا لأن فاطمة بنت رسول الله كانت تحته وزوجة له. وخرج ابن الجوزي سالما غانما.

إن فقه الواقع يستوجب فقها في وقت الكلام ونوعه، وإجابة أسئلة بعينها من عدمه، وإشهار فتاوى في وقت أو السكوت عنها، أو ردود مجملة لا تهيج عدوا ولا تؤذي صديقا، وقبل هذا لا تعيب دينا ولا تنقص شرعا. أبعد ما تكون عن المداهنة، ولكنها ليست من المدارة ببعيد. ولكنها أيضا أبعد ما تكون عن "غفلة الصالحين".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة