- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:اقرأ في إسلام ويب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فمما لا شك فيه أن الهجرة النبوية كانت حدثا عظيما غير مجرى التاريخ، وأثر في حياة البشرية كلها، وكانت فرقانا فرق الله به بين الحق والباطل، وكانت السبيل إلى وضع أسس الدولة الإسلامية التي خرج منه الدعاة والمجاهدون الذين نشروا نور الله في الأرض، وعلى أيديهم دخل الناس في دين الله تعالى أفواجا.
والمتأمل في أحداث الهجرة النبوية يجد العديد من الدروس والعبر التي ينبغي استلهامها والتوقف عندها والأخذ من معينها، ومن هذه الدروس والعبر:
التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب:
إنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد للأمر عدته، فيختار التوقيت المناسب، ويختار الصديق المناسب، والمكان الأمثل، ويوظف الطاقات المتاحة أفضل توظيف ممكن.
فصاحبه في الهجرة أبو بكر رضي الله عنه الذي كان أول من أسلم، والذي سخر كل إمكاناته منذ اليوم الأول لخدمة هذا الدين وهذه الدعوة المباركة، والذي فرح باختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ليكون صاحبه في الهجرة حتى سالت دموع الفرح على خديه رضي الله عنه، وهو الذي تولى إعداد الراحلتين اللتين سيهاجران عليهما.
أما عن التوقيت فقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر، وهو الوقت الذي لا يكاد يخرج فيه أحد، ولم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم الخروج فيه، وإنما فعل ذلك حتى لا يراه أحد من المشركين.
وكان الخروج للهجرة ليلا، ومن باب خلفي في بيت أبي بكر. ونلمح في ثنايا ذلك حرصا شديدا على السرية وضمان كتمان الأمر حتى عن أقرب الناس، فقد أخفى شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء متلثما، وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
أما عن اختيار المكان والطريق المناسب فيتجلى ذلك في اخياره صلى الله عليه وسلم طريقا غير مألوفة للناس؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا؛ فسلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلا يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هو يختار غار ثور للاختباء فيه حتى يخف الطلب، وهو مكان لا يتوقع أحد من المشركين أن يصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المواصفات التي ذكرت سابقا.
توظيف الطاقات:
أما عن توظيف الطاقات فنراه صلى الله عليه وسلم يستعمل الشخص المناسب في المكان المناسب، هذا علي رضي الله عنه يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام في فراشه ليخدع القوم، ويسلم الودائع، ويلحق بعد ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وعبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو الذي يكون بين الناس في مكة يستمع إلى أحاديثهم ويتعرف على خططهم وما يدبرون، ثم يأتي بالخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
وعامر بن فهيرة رضي الله عنه الراعي الذي يرعى بغنمه في نفس المسار الذي يسير فيه عبد الله بن أبي بكر ليبدد أثر المسير حتى لا يتعقبه المشركون فيصلون إلى مكان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهو الذي يروح عليهما بالحليب الذي يشربانه.
وأسماء ذات النطاقين رضي الله عنها تحمل التموين والطعام من مكة إلى الغار.
وعبدالله بن أريقط: دليل الهجرة، وخبير الصحراء البصير، الذي كان على أهبة الاستعداد ينتظر إشارة البدء من الرسول؛ ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب.
التوكل على الله تعالى:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ بكل الأسباب الممكنة، وأعد للأمر عدته وخطط تخطيطا محكما، لكنه أبدا لم يركن إلى الأسباب، بل كان متعلق القلب بالله تعالى متوكلا عليه، فحين وصل المشركون إلى فم الغار حتى قال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!. فكان جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟). وهذا دليل على شدة تعلقه بربه وتوكله عليه.
إن التوكل عبادة قلبية عظيمة يترتب عليها الخير في الدنيا والآخرة، وقد تجلى ذلك أيضا حين أدركهما سراقة بن مالك، ولندع الصديق رضي الله عنه يخبرنا بهذا فقد قال: "ارتحلنا والقوم يطلبونا، فلم يدركنا منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: {لا تحزن إن الله معنا}[التوبة: 40]. فلما أن دنا فكان بيننا قيد رمح أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، وبكيت، فقال: (ما يبكيك؟) فقلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكني أبكي عليك. قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اكفناه، قال: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها، ثم قال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب".
التضحية:
من أعظم دروس الهجرة تعلم التضحية في سبيل الله تعالى نصرة لدينه، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضطر إلى مغادرة بلده الذي ولد فيه وترعرع، وترك أقرباءه وعشيرته، فقال وهو يغادرها بنبرة من الحزن: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يضحي بنفسه؛ حيث يعلم أن المشركين اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، ومع ذلك ينام في فراش الرسول ويتسجى ببرده، فأي نموذج في الفداء، وأية تضحية هذه؟!.
وهذه أم سلمة - وهي أول امرأة مهاجرة في الإسلام - تقول: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رحل بعيرا له، وحملني وحمل معي ابنه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوني، وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، فمكثت رضي الله عنها سنة كاملة تبكي، حتى أشفقوا من حالها، فخلوا سبيلها، وردوا عليها ابنها، فجمع الله شملها بزوجها في المدينة".
ومن نماذج التضحية في الهجرة التضحية بالمال، ويتجلى ذلك فيما فعله الصديق رضي الله عنه حين أخذ ماله كله ولم يترك لآل بيته منه شيئا، قالت أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه! قالت: قلت: كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة في البيت، التي كان أبي يضع أمواله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال! قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم! ولا والله ما ترك لنا أبي شيئا، ولكنني أردت أن أسكن الشيخ.
والنموذج الآخر للتضحية بالمال يتجلى في صهيب الرومي رضي الله عنه، فإنه لما أراد الهجرة، قال له كفار قريش: "أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ربح صهيب).
وفي الجملة فإن المهاجرين بصفة عامة قد تركوا الوطن والبيت والمال، وقد قال الله فيهم: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله ۚ أولئك هم الصادقون}(الحشر: 8).
إن الهجرة في نفسها هي قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة.