اللهُمَّ لا تَجْعَل قَبْرِي وثناً

0 520

بداية الشرك بالله عز وجل أتت من الغلو في الصالحين وإنزالهم فوق منزلتهم، والاعتقاد بأنهم يعلمون الغيب، وأن الخير والنفع بيدهم، ويأتي عن طريقهم، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}(نوح:23): "هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.. وقال ابن جرير: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم".
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان شديد العناية في تحذير أمته من الوقوع في الشرك، وقد سد وأغلق كل ذريعة وباب إلى الوقوع في الشرك بالله، حماية منه وصيانة للتوحيد.. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حذر تحذيرا شديدا، ونهى في أحاديث كثيرة نهيا واضحا عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهما: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم (المرض الذي مات فيه)، طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال: وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: يحذر ما صنعوا) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل (ميت) من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم". وقال ابن بطال: "قال المهلب: هذا النهي من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل (لعن) الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه مسلم. قال المناوي: "(قاتل الله اليهود) أي أبعدهم عن رحمته لأنهم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) أي اتخذوها جهة قبلتهم مع اعتقادهم الباطل وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها، وهذا بين به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم، وخص هنا اليهود لابتدائهم هذا الاتخاذ فهم أظلم، وضم إليهم في رواية للبخاري النصارى"..

اللهم لا تجعل قبري وثنا:
مع تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد، فقد دعا ربه عز وجل أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه أحمد. وفي رواية لأبي داود: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم). وفي رواية لمالك في الموطأ وغيره ـ صححها بعض العلماء وضعفها آخرون ـ عن عطاء بن يسار: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قال الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على من قال بضعف الحديث لأن عطاء بن يسار ليس من الصحابة، بل من التابعين فحديثه مرسل، فقال: "ولعل في النسخة سقطا.. مالك هو ابن أنس الإمام المشهور أحد الأئمة الأربعة (المتوفى :179هـ)، وكتابه الموطأ أيضا مشهور وهو من أصح الكتب، لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، ولقربه أيضا وعلو سنده هو يعتبر عالي السند لأنه من شيوخ البخاري، فهو أرفع منه وأقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون سنده عاليا وكلما كان السند أعلى كان للصحة أقرب".
قال ابن عبد البر في "التمهيد": "الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة، أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن، صنما كان أو غير صنم، وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم: كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه، ويسجد نحوه ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم من امتثال طرقهم".
وقال ابن رجب في " فتح الباري" بعد أن ذكر كلام ابن عبد البر: "وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى: قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده". وقال الباجي في "المنتقى شرح الموطأ": "دعاؤه صلى الله عليه وسلم أن لا يجعل قبره وثنا يعبد تواضعا والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرارا بالعبادة، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وقد روى أشهب عن مالك أنه لذلك كره أن يدفن في المسجد، وهذا وجه يحتمل أنه إذا دفن في المسجد كان ذريعة إلى أن يتخذ مسجدا، فربما صار مما يعبد". وقال القاري: "(لا تجعل قبري وثنا يعبد) أي: لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس، وعودهم للزيارة بعد بدئهم، واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد". وقال: "(ولا تجعلوا قبري عيدا) هو واحد الأعياد، أي: لا تجعلوا زيارة قبري عيدا، أو لا تجعلوا قبري مظهر عيد، فإنه يوم لهو وسرور، وحال الزيارة خلاف ذلك، وقيل: محتمل أن يكون المراد الحث على كثرة زيارته، ولا يجعل كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين. قال الطيبي: نهاهم عن الاجتماع لها اجتماعهم للعيد نزهة وزينة، وكانت اليهود والنصارى تفعل ذلك بقبور أنبيائهم، فأورثهم الغفلة والقسوة، ومن عادة عبدة الأوثان أنهم لا يزالون يعظمون أمواتهم حتى اتخذوها أصناما، وإلى هذا أشار لقوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)". وقال الشيخ ابن عثيمين:"(لا تجعل قبري وثنا يعبد) وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن ممن قبلنا من جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد.. لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك".

فائدة:
1 ـ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن على القبر، بل بني في حياته، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن صلى الله عليه وسلم في بيته حيث توفي في حجرة عائشة رضي الله عنها، ثم إن قبره صلوات الله وسلامه عليه ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنيا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحوطا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة ـ بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى ـ.. وإضافة لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثنا على الصلاة في مسجده، وأخبرنا أن الصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه من المساجد..
وقد رد الشيخ ابن عثيمين على شبهة وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في كتابه "القول المفيد على كتاب التوحيد" فقال: "إذا قال قائل نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه في وسط المسجد، فما هو جوابه؟ قلنا: الجواب على ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر، بل بني المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته. والوجه الثالث: أن إدخال بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم، ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام: 94هـ تقريبا.. الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنيا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا محوطا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي مثلثا، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف. فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور". وقال الشيخ ابن باز: "هنا شبهة يشبه بها عباد القبور، وهي: وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، والجواب عن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدفنوه في مسجده، وإنما دفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها، فلما وسع الوليد بن عبد الملك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر القرن الأول أدخل الحجرة في المسجد، وقد أساء في ذلك، وأنكر عليه بعض أهل العلم، ولكنه اعتقد أن ذلك لا بأس به من أجل التوسعة. فلا يجوز لمسلم أن يحتج بذلك على بناء المساجد على القبور، أو الدفن في المساجد، لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة، ولأن ذلك أيضا من وسائل الشرك بأصحاب القبور".
2 ـ ذكر ابن القيم أن الله تعالى استجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، فقال في قصيدته "النونية":
ولقد نهانا أن نصير قبره عيدا      حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي       قد ضمه وثنا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه         وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه        في عزة وحماية وصيان
وقال الشيخ الهراس في "شرحه للنونية": "قال القرطبي: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين -، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره". وقد سئل الشيخ ابن عثيمين: هل استجاب الله دعوة نبيه بأن لا يجعل قبره وثنا يعبد؟ فأجاب بقوله: "يقول: ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره صلى الله عليه وسلم جعل وثنا، بل إنه حمي قبره بثلاثة جدران فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنا يعبد من دون الله، ولم نسمع في التاريخ أنه جعل وثنا. صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنا. ولكن قد يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في مكان بعيد". وقال الصنعاني: " قوله في حديث عطاء بن يسار وهو تابعي: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) أي لا تخذل أمتي فيتخذونه كذلك، وإلا فإنه ليس عليه صلى الله عليه وسلم شيء لو عبد قبره، وإنما الدعاء شفقة على أمته من الضلالة. وقد أجاب الله دعاءه فليس لقبره ما لقبور جماعة اتخذهم الناس أوثانا يهتفون بهم ويطوفون بقبورهم وينزلون بهم الحاجات".

اتفق علماء وأئمة أهل السنة ـ قديما وحديثا ـ على ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة من تحريم اتخاذ القبور مساجد، وذكروا أن من الحكمة في ذلك هو عدم الغلو في صاحب القبر، وهذا الغلو قد يفضي بالناس إلى عبادة صاحب القبر ودعائه، والاستغاثة به، والنذر له، وطلب النفع ودفع الضر منه، وكل ذلك شرك بالله عز وجل.. وهذا الحديث (اللهم لا تجعل قبري وثنا) برواياته المتعددة فيه: إعلام للأمة ـ في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ بأن يتجنبوا ويبتعدوا كل البعد عن اتخاذ القبور مساجد، لما في ذلك من الذريعة إلى عبادتها والاعتقاد فيها وفي أصحابها والوقوع في الشرك بالله عز وجل. وفيه: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبعاد أمته عن الشرك وأسبابه، وفيه: التحذير من الغلو في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فغيره من الأنبياء والأولياء من باب أولى.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة