التعريض في القرآن الكريم

0 296

(التعريض) ضد التصريح، يقال: (عرض) لفلان وبفلان: إذا قال قولا وهو يعنيه. ومنه (المعاريض) في الكلام، وهي التورية بالشيء عن الشيء. وفي المثل: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. أي سعة. 

وقد عرف الزمخشري التعريض بأنه أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره. وعرفه ابن الأثير بأنه: اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي، كقول من يتوقع صلة: والله إني محتاج، فإنه تعريض بالطلب، مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا، وإنما فهم من عرض اللفظ، أي جانبه. وقال السكاكي: التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن يخاطب واحد ويراد غيره، وسمي به؛ لأن الكلام أميل إلى جانب مشارا به إلى آخر، يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي جانبه. والتعريض بحسب الزركشي هو الدلالة على المعنى من طريق المفهوم، وسمي تعريضا؛ لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ، أي من جانبه، ويسمى التلويح؛ لأن المتكلم يلوح منه للسامع ما يريده.
 
وذكر سبحانه لفظ (التعريض) في سياق آية عدة المتوفى عنها زوجها، قال سبحانه: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} (البقرة:235)، قال السعدي: التعريض، وهو الذي يحتمل النكاح وغيره، فهو جائز للبائن، كأن يقول لها: إني أريد التزوج، وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك، ونحو ذلك، فهذا جائز؛ لأنه ليس بمنزلة الصريح، وفي النفوس داع قوي إليه.
  
ويؤتى بالتعريض -كما ذكر الطيبي- ليفيد عدة أغراض، منها: 
 
- التنويه بجانب الموصوف، ومنه قوله سبحانه: {ورفع بعضهم درجات} (البقرة: 253) أي: محمدا صلى الله عليه وسلم؛ إعلاء لقدره، أي أنه العلم الذي لا يشتبه.
 
- التلطف بالمخاطب والاحتراز عن المخاشنة، نحو قوله تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني} (يس:22) أي: وما لكم لا تعبدون، بدليل فاصلة الآية قوله: {وإليه ترجعون}، ولولا التعريض لكان المناسب: وإليه أرجع. وكذا قوله عز وجل: {أأتخذ من دونه آلهة} (يس:23) ووجه حسنه إسماع من يقصد خطابه الحق على وجه يمنع غضبه؛ إذ لم يصرح بنسبته للباطل والإعانة على قبوله، إذ لم يرد له إلا ما أراده لنفسه، قال الزركشي: "ووجه حسنه ظاهر؛ لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر، كأنك لم تعنه، وهو أعلى في محاسن الأخلاق، وأقرب للقبول، وأدعى للتواضع". 
 
- استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، ومنه قوله سبحانه: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر:65) خوطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأريد غيره؛ لاستحالة الشرك عليه شرعا.
 
- الذم، نحو قوله سبحانه: {إنما يتذكر أولو الألباب} (الرعد:19) فإنه تعريض بذم الكفار، وأنهم في حكم البهائم الذين لا يتذكرون ولا يتعظون ولا يؤبون إلى الحق. ومنه قوله تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم} (فاطر:18) المقصود التعريض بذم من ليست له هذه الخشية، وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ولا قلب يعقل، وأن الإنذار له كلا إنذار.                                                                                                                                                                                                                                                                                               
- الإهانة والتوبيخ نحو قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} (التكوير:8-9) قال ابن عاشور: "في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها؛ وليكون جوابها شهادة على من وأدها، فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر".
 
- أن يخاطب الشخص والمراد غيره، سواء كان الخطاب مع نفسه أو مع غيره، نحو قوله سبحانه: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} (البقرة:209) تعريضا بأن قوم النبي صلى الله عليه وسلم أشركوا واتبعوا أهواءهم وزلوا فيما مضى من الزمان؛ لأن الرسول لم يقع منه ذلك، فالخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب؛ لأن الزلل لهم لا للمؤمنين. 
 
ومن أمثلة التعريض في القرآن -غير ما تقدم- قوله عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة:3) جاء الوصف {بالغيب} تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث، وقالوا: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} (سبأ:7) فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر.
 
ومنها قوله سبحانه: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (البقرة:173) سلك طريق الحصر {إنما} لبيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات، وأحلوا الميتة والدم.
ومنها قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} (البقرة:200) المقصود أن يذكروا الله كثيرا، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في تلك المناسك بذكر لا ينفع، وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله، فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر.
 
ومنها قوله عز وجل: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} (آل عمران:6) خص سبحانه من بين شؤون (القيومية) تصوير البشر؛ لأنه من أعجب مظاهر القدرة؛ ولأن فيه تعريضا بالرد على النصارى في اعتقادهم إلاهية عيسى عليه السلام من أجل أن الله صوره بكيفية غير معتادة، فبين لهم أن الكيفيات العارضة للموجودات كلها من صنع الله وتصويره، سواء المعتاد منها، وغير المعتاد.
 
ومنها قوله سبحانه: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة:35) الجار والمجرور متعلق بـ {الوسيلة} وقدم على متعلقه للحصر، أي: لا تتوسلوا إلا إليه لا إلى غيره، فيكون تعريضا بالمشركين؛ لأن المسلمين لا يظن بهم ما يقتضي هذا الحصر.
 
ومنها قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} (الأنعام:97) جعل التفصيل {لقوم يعلمون}، تعريضا بمن لم ينتفعوا من هذا التفصيل، بأنهم قوم لا يعلمون.
 
ومنها قوله عز وجل: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} (الأنفال:13) ذكر (المشاقة) التي هي ضد الطاعة، تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
ومنها قوله سبحانه في قصة يوسف عليه السلام: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (يوسف:90) حثهم يوسف عليه السلام على التقوى والتخلق بالصبر؛ تعريضا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه، ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.
 
ومنها قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46) أفاد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم، بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدة اتصالها بهم؛ إذ هي قارة في صدورهم، على نحو قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فالآن أنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي)، فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحب الأشياء إليه.
 
ومنها قوله عز وجل: {أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} (الصافات:125) ذكر سبحانه صفته {أحسن الخالقين} دون اسمه العلم؛ تعريضا بتسفيه عقول الذين عبدوا بعلا بأنهم تركوا عبادة الرب المتصف بأحسن الصفات وأكملها، وعبدوا صنما، فكأنه قال: أتدعون صنما بشعا جمع عنصري الضعف وهما: المخلوقية، وقبح الصورة، وتتركون من له صفة الخالقية والصفات الحسنى.
 
ثم إن السبكي قال: التعريض قسمان: قسم يراد به معناه الحقيقي، ويشار به إلى المعنى الآخر المقصود، كما تقدم، وقسم لا يراد، بل يضرب مثلا للمعنى الذي هو مقصود التعريض، كقول إبراهيم عليه السلام: {بل فعله كبيرهم هذا} (الأنبياء:63) نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، كأنه غضب أن تعبد الصغار معه تلويحا لعابدها بأنها لا تصلح أن تكون آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزا فهو حقيقة أبدا.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة