معالجات الغضب في السنة النبوية

0 329

لما كانت القوة الغضبية من أبرز الغرائز التي تسيطر على الإنسان، فإننا نجد السنة النبوية اهتمت في استصلاحها وترشيدها، وسبل معالجاتها، ومن واقعية السنة النبوية أنها لم تنه عن مجرد حصول الغضب فتلك جبلة نفسانية، وإنما جاءت بمعالجات لآثار الغضب، حتى لا تتحول إلى غريزة مدمرة للإنسان.

أولا: حقيقة الغضب:

الغضب هو: التغير الذي يحصل للإنسان عند فوران دم القلب، حتى يرتفع إلى أعالي البدن، فتنتفخ به العروق والأوداج، ويحمر الوجه والعينان، ويولد عنده الرغبة في الانتقام ويجعله يتصرف تصرفات لا يرتضيها في حالة السكون والهدوء، وهذا في الغضب الذي يكون معه القدرة على الانتقام، فأما مع العجز واليأس من الانتقام فإنه يتولد معه انقباض في الدم، فيكون من علامته اصفرار الوجه.

وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن ‌الغضب ‌جمرة توقد في جوف ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، وفي رواية: إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار. رواه أحمد وأبو داوود.

فهذا الخبر النبوي يعطينا الحقيقة الواقعية للغضب، وأن الذي يوقد جمرته في القلب هو الشيطان، وهو باب من أبواب تسلطه على الإنسان، ولذلك جاء في المسند "إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان" ومعنى استشاط أي: إذا احترق والتهب من شدة الغضب.

ثانيا: أقسام الناس في الغضب:

جاء في سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم ‌سريع ‌الغضب سريع الفيء، فتلك بتلك، ألا وإن منهم ‌سريع ‌الغضب بطيء الفيء، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، ألا وشرهم ‌سريع ‌الغضب بطيء الفيء.

فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس في هذا الأمر إلى ثلاثة أصناف، فجعل خير الأصناف من يكون بطيء الغضب سريع الرجوع من الغضب، وشرهم "‌سريع ‌الغضب بطيء الفيء" ومن لا يوصف بخيرهم ولا شرهم هو "سريع الغضب سريع الفيء"، فقد قال عنه: (فإحداهما بالأخرى) أي: إحدى الخصلتين مقابلة بالأخرى، ولا يستحق المدح والذم فاعلهما لاستواء الحالتين فيه بمقتضى العقل، فلا يقال في حقه: إنه خير الناس ولا شرهم، وتمام القسمة العقلية صنف رابع "بطيء الغضب بطيء الفيء"، وهذا هو الذي لا يغضب سريعا، ولكنه إذا غضب لا يتمالك نفسه، فهو داخل في شرهم والله أعلم؛ لأن العبرة بمن يملك نفسه سواء غضب سريعا أو أبطأ حتى غضب.

ثالثا: آثار الغضب:

لا شك أن الغضب ضرب من الجنون، وخروج الطبع عن استوائه، فيجعل الإنسان يتكلم بالكلام الفاحش، ويتصرف بالظلم، وعلى هذا يتنزل النهي النبوي عن الغضب في وصيته للرجل، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا ‌تغضب، فردد مرارا قال: ‌لا ‌تغضب.

يقول الخطابي في أعلام الحديث شرح صحيح البخاري: "معنى قوله: ‌"لا ‌تغضب"، هو التحذير من أسباب الغضب، وأن لا يتعرض للأمور التي تجلب عليه الضجر فتغضبه، فأما نفس الغضب، فطبع في الإنسان لا يمكنه نزعه وإخراجه من جبلته وقد يكون معنى قوله: ‌لا ‌تغضب، أي: لا تفعل ما يأمرك به الغضب ويحملك عليه من القول والفعل، وقد قيل: أن أعظم أسباب الغضب الكبر، وإنما يغضب الإنسان لما يتداخله من الكبر عندما يخالف في أمر يريده أو يعارض في شيء يهواه، فيحمله الكبر على الغضب لذلك، فإذا تواضع وذل في نفسه ذهبت عنه عزة النفس وماتت سورة الغضب، فسلم بإذن الله من شره" أ.هـ

رابعا: المعالجات النبوية للغضب:

من يتأمل السنة النبوية يلحظ اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الغضب، فنوع في الأساليب والأدوية التي يدفع بها الغضب، ابتداء من الأمر بالبعد عن أسباب الغضب، وهكذا تصاحبه الأدوية النبوية في أثناء الغضب، إلى أن تهدأ جمرته، وتخبو فورته، ومن تلك المعالجات:

أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان:

فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني لست بمجنون.

وقول الرجل: إني لست بمجنون، جواب غريب لا يصدر عن مؤمن حتى قال ابن حجر في الفتح: أخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا، أو كان غلبه الغضب حتى أخرجه عن حد الاعتدال، بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيئ! وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، اهـ. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.

ثانيا: تغيير هيئته بحيث لا يكون على هيئة تمكنه من الانتقام:

فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: "ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحس من ذلك شيئا فليلزق بالأرض".

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع".

قال الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم: إن المعنى في هذا: أن القائم متهيئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجع أبعد عنه؛ فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام.

ويشهد لذلك أنه روى من حديث سنان بن سعد عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن حديث الحسن مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الغضب جمرة في قلب الإنسان توقد، ألا ترى إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئا فليجلس ولا يعدونه الغضب". والمراد أنه يحبسه في نفسه ولا يعديه إلى غيره بالأذى بالفعل.

ثالثا: السكوت

فقد أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غضب أحدكم فليسكت؛ قالها ثلاثا".

فتعويد النفس على السكوت وقت الغضب من أفضل أدوية الغضب، والذي يعين على ذلك تأمل نتائج الكلمات الغاضبة، فقد يقول كلمة يكفر بها، أو يطلق زوجته فتبين منه، أو يجرح نفسا لا يندمل جرحها بسهولة، وربما كان ثمن الكلمة الغاضبة روحا تزهق، أو عرضا يهتك، فالسكوت في الغضب علامة الرشد والكمال.

رابعا: الوضوء أو الاغتسال

فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم قال: حدثني أبي، عن جدي عطية، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".

وظاهر الحديث أن الأمر بالوضوء عند الغضب تعبدي، ولكن يمكن أن يلحظ فيه معنى إشغال الغضبان عن سبب غضبه، وصرفه عن مزيد التهييج الذي يحصل له. والله أعلم.

خامسا: التأمل في ثواب كظم الغيظ ومدافعة الغضب:

فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء".

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله عز وجل من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى".

وأخرج أيضا من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، وما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا".

وبالتزام هذه الأدوية النبوية يستطيع الإنسان أن يسلم من آثار الغضب المؤذية، والتي تطال حياته الفردية والعائلية، وعلاقاته الاجتماعية، وتسلم صحيفته من المظالم المتعلقة بالناس

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة