مقاصد السؤال النبوي

0 250

السؤال في الدراسات التحليلية له مضامينه التربوية والتعليمية، وله أهميته في الأساليب التعليمية، من خلال إيصال المعاني إلى الدارس والمتلقي بأسلوب تحفيزي، فكيف إذا كان الكلام عن السؤال النبوي، لا شك أنه يحمل دلالات ومقاصد عالية المستوى، وهذه بعض المقاصد التي حملتها بعض النماذج للسؤالات النبوية.

المقصد التعليمي:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معلما، فهو من علم العلماء، وألهم الحكماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت معلما" رواه ابن ماجة والطبراني في المعجم الكبير، ولذلك فإن مقصد التعليم في السؤال منسجم مع هذه المهمة العظيمة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان سؤال التعليم هو الأغلب في السؤال النبوي.
 
المثال الأول: عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله،  قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد البين هي الحالقة" رواه ابن حبان في صحيحه.
 
فهذا سؤال لأجل التعليم، وفائدة إلقاء السؤال في مقام التعليم هو تحفيز المتلقي، واستثارة انتباهه لأهمية ما سيلقى عليه من المعلومات، ولا شك أن السؤال الذي سألهم يحمل أعلى درجات التحفيز والتهيئة، فقد استقر في نفوسهم مكانة الصلاة والصيام والصدقة، وهو يخبرهم بصيغة السؤال عما يربو عليها أهمية وأثرا، ثم يخبرهم أن هذا الأمر هو "إصلاح ذات البين"، ولم يرد تفضيله على الصلاة والصيام والصدقة المفروضة، وإنما على نوافلها، وهذا يجعل السامع يدرك أهمية فريضة الإصلاح ذات البين، فكان المقصد من السؤال بيان مراتب الأعمال، حتى لا يطغى الجانب التعبدي المحض على الفرائض الاجتماعية المتعلقة بالآخرين.
 
المثال الثاني: عن ‌أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ‌ما ‌هذا ‌الحبل؟. قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد رواه البخاري في صحيحه.
 
المثال الثالث: عن ‌سعد بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر، فقال: ‌أينقص إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه رواه النسائي في سننه.
 
المثال الرابع: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو مضمضت ممن الماء وأنت صائم؟!". قال: لا بأس. قال: "فمه؟ "، رواه أبو داود في سننه.
 
فهذا السؤال يقصد به التعليم من خلال ضرب المثل بالصورة القريبة لتجلية الصورة البعيدة، وهو تفنن نبوي في التعليم وإيصال الحكم الشرعي بأوضح صورة للمتلقي. 
 
سؤال الملاطفة:
المثال الأول: قد يكون سؤال الملاطفة مع الأهل وهم أحق باللطف والإيناس، وقد ظهر ذلك جليا في حواره - صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- وكانت صغيرة، وكان إذ ذاك قد رجع من غزوة تبوك أو خيبر، حيث هبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعب لعائشة كن في سهوة بيتها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا يا عائشة؟". قلت: بناتي. ورأى -عليه الصلاة والسلام- بينهن فرسا له جناحان من رقاع!، فقال: "وما هذا الذي أرى وسطهن؟". قالت: فرس. قال: "وما هذا الذي عليه؟".  قالت: جناحان، قال: "فرس له جناحان؟!". قالت: أما سمعت أن لسليمان -عليه السلام- خيلا لها أجنحة؟! فضحك حتى رأيت نواجذه" أخرجه أبو داود في سننه في سننه.
 
المثال الثاني: وقد يكون سؤال الملاطفة مع الأطفال، فعن ‌أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيم، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل ‌النغير؟ نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا رواه البخاري في صحيحه.
و"‌النغير": طائر يشبه العصفور، وقيل: هو فرخ العصفور.
 
المثال الثالث: وقد يكون سؤال الملاطفة مع بعض أصحابه حين يرى عليه تغيرا، كما في صحيح البخاري عن ‌أنس بن مالك قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال: ‌مهيم يا عبد الرحمن، فقال: تزوجت أنصارية، قال: فما سقت؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: أولم بشاة مهيم: تعني ما هذا الشيء.
 
مقصد الإنكار والمعاتبة:
قد يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بقصد الإنكار، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم وكمال خلقه، فإنه لا يبتدئ بالإنكار إلا بعد التثبت وسؤال الإنسان حتى يتحقق من خطئه.
 
المثال الأول: في صحيح البخاري في قصة حاطب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ‌حاطب، ‌ما ‌حملك على ما صنعت"؟!
 
المثال الثاني: ‌‌في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد بن حارثة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ‌أسامة،أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فقال: ‌أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم
وفي رواية عند أبي داود في سننه: " من لك بلا إله إلا الله؟! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم ذلك قالها أم لا؟!  من لك بلا إله إلا الله".
مع أنه يعلم أنه قتله بعد أن قال كلمة التوحيد، ومع ذلك سأله السؤال بقصد الإنكار والتقرير بالخطأ، ويأتي تكرار السؤال عليه لبيان خطورة الأمر الذي فعله أسامة رضي الله عنه.
 
المثال الثالث: إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عندما أطال الصلاة، فعن جابر قال: قال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ! أفتان أنت؟! أفتان أنت؟!" أخرجه أبو داود في سننه في سننه.
فبدل أن يقول له: أنت فتان، أخرجها بصيغة السؤال، وفي هذا إنكار وتحذير من أن يكون شأنه فتنة الناس عن دينهم.
 
ولو جئنا لتتبع سؤالات النبي صلى الله عليه وسلم ومقاصدها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات، ولكن القصد هو لفت الانتباه لقراءة السؤال النبوي في ضوء مقاصده المتعددة، والاستفادة من ذلك، في كل المجالات، فالقاضي يستلهم القدوة في السؤال النبوي المتمثل في فهم حيثيات القضايا، ودرء الحدود بالشبهات من خلال الاستفصال الذكي، وهكذا المفتي يسأل عن الأوصاف المؤثرة في الحكم ليبني حكمه عليها، والتربوي له حظه من المضامين النبوية في مقاصد السؤال، فيتعلم فنون السؤال الإنكاري، والتربوي، وطرائق التأثير في المتربي من خلال السؤال الهادف، والملاطفة الحانية، وهكذا الداعية والأب والأم، فمقاصد السؤال النبوي واسعة متنوعة.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة