فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله

0 109

الإنسان في هذه الحياة لابد أن تقابله مشاكل ومتاعب، وبلايا ومصائب، وهذا أمر لا يخلو منه أحد من الناس فهذه هي طبيعة الحياة.
خلقت على كدر وأنت تريدها     صفوا من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها     متطلب في الماء جذوة نار فطبيعة الحياة أن يكون فيها ابتلاءات وامتحانات وانكسارات أحيانا، لكن من فضل الله على أهل الإيمان أنه جعل من الإيمان سلوى يتسلون بها، وحافظا يحفظ به أهله ويحميهم من الوهن ومن التسخط والتبرم، ويصونهم من الانكسار أو اليأس أو التنازل، وهكذا الإيمان يصنع بأهله.

بشاشة الإيمان في القلوب
لما أحضر هرق ملك الروم أبا سفيان ليسأله عن أحوال رسول الله صلى الله وأحوال أتباعه، كان مما قال له: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. قال هرقل: كذلك الإيمان، حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

فالإيمان يحمي صاحبه ويحفظه من أن يتنازل، من أن ينكسر، من أن يضل، من أن يضيع، من أن يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
بلال رضي الله عنه كان المشركون يعذبونه أشد العذاب، ويخرجونه في الرمضاء في هذا الحر الملتهب ويضعون الحجارة الحارقة على صدره العاري، وهو يقول ويكرر: أحد أحد.. فما ضعف ولا وهن، ولما سألوه لماذا يقول أحد.. أحد؟ قال: لأنهم يغتاظون منها، ولو أعلم كلمة هي أغيظ لهم منها لقلتها.

زنيرة جارية بني مؤمل، أسلمت فعذبتها سيدتها والمشركون حتى عميت وكف بصرها، ثم قال لها: إن اللات والعزى هي التي انتقمت منها لكفرها بهما.. فقالت: والله ما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولو شاء ربي لرد علي بصري.. فأصبحت وقد رد الله عليها بصرها.

لما أخذوا خبيب بن عدي في بعث الرجيع، ثم نصبوا له خشبة وصلبوه عليها استعدادا لقتله.. جاءه أبو سفيان وقال: يا خبيب أتحب أن محمدا مكانك نضرب عنقه، وأنت في بيتك وبين أهلك؟ فقال: والله ما أحب أني بين أهلي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تشوكه شوكة.. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.
أسرت قريش مسلما في غزوة     فغدا بلا وجل إلى السياف ســألوه هل يرضيك أنك سالـم     ولك النبي فدا من الإتلاف فأجاب كلا لا سلمت من الردى     ويصاب أنف محمد برعاف
وفي المقابل بعض الناس إذا ابتلوا ببلية، أو حصلت لهم مشكلة أو أصيبوا بمصيبة قعدوا، ووهنوا، وأصابهم الإحباط وتركوا العمل.. وهؤلاء ذمهم الله تعالى.
في غزوة أحد تعلمون أن المسلمين كانوا أقل كثيرا من المشركين، ومع ذلك رتب النبي جيشه باقتدار ووضع الخطة المناسبة، وجعل الرماة الخمسين على الجبل وعليهم عبد الله بن جبير، وأكد عليهم ألا يتركوا مواقعهم مهما كانت نتيجة المعركة، وقال: (لا تبرحوا أماكنكم وإن رأيتمونا تتخطفنا الطير).. وبدأت المعركة وسارت كما خطط لها رسول الله، وما هو إلا وقت قليل حتى ركب المسلمون أكتاف المشركين وهزموهم، وولى المشركون الأدبار وخلفهم المسلمون يحسونهم بالسيوف.
فلما رأى الرماة هذا ظنوا أن المعركة قد انتهت وبدءوا ينزلون ليجمعوا الغنائم، وقائدهم ابن جبير يذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، لكنهم لم يسمعوا ونزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا متأولين نهاية المعركة..
فكان أن أتى خالد بن الوليد بفرسان المشركين، ودهموا المسلمين من الخلف، ووقعت الزلزلة في جيش المسلمين، واضطرب الحال وتحولت الكرة للمشركين، فركبوا أكتاف المسلمين وأعملوا فيهم القتل.. حتى قتلوا منهم سبعين، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وشج في وجهه، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وأشيع بين الناس أن النبي قد قتل، ونادى الشيطان: إن محمدا قد مات.
فلما سمع بعض المسلمين ذلك تركوا الجهاد، ورموا السيوف وقعدوا ينتظرون الموت.. مر عليهم أنس بن النضر فقال مالكم: قالوا إن رسول الله قد مات، فما الحياة بعد رسول الله.. قال: فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله..
وقد عاتب الله سبحانه هؤلاء القاعدين وأنزل في حقهم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ۚ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ۚ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ۗ وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ۗ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ۚ وسنجزي الشاكرين (145) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ۗ والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ۗ والله يحب المحسنين (148)}[آل عمران].

أي وما محمد إلا رسول كبقية رسل الله الذين بعثهم إلى خلقه يدعون إلى عبادته، ويبلغون رسالته، ويجاهدون في سبيل رفعة دينه وإعلاء كلمته.. فلما انتهت أعمارهم وانقضت آجالهم قبضهم الله إليه وماتوا كما هي سنة الله في العباد فماذا كان؟.
فكأنه يقول: وماذا لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، هل انتهت الحياة وانتهى الدين، بل يجب عليكم أن تسيروا على نهجه وتبلغوا دينه، وتنصروه حتى تلقوا ربكم.
كما هي سنة الله في الرسل وأتباع الرسل، يقول سبحانه {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ۗ والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ۗ والله يحب المحسنين (148)}[آل عمران].

أي أنه قد كان فيمن قبلكم رسل وأنبياء معهم ربيون أي جماعات من الناس كثيرة وأتباع بالآلاف، قاتلوا مع نبيهم فقتل نبيهم "على قراءة نافع وابن كثير المكي وأبي عمرو ويعقوب البصريين"، { وكأين من نبي قتل}، أو قتل عدد كبير ممن كان معه ـ على قراءة الباقين.. فما وهن من بقي منهم، ولا استكانوا، ولا ضعفوا، ولا ذلوا لعدوهم، ولا قبلوا الضيم ولا تنازلوا عن مبادئهم ودعوتهم، ولا باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.
ولكنهم نظروا فعلموا أنهم إنما هزموا لتقصيرهم ومخالفة أمر ربهم، كما أنكم أصبتم وهزمتم لنفس السبب لما خالفتم أمر نبيكم، فعادوا باللوم على أنفسهم وقالوا: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.

فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها على معاصيها وتقصيرها، وإسرافها في مخالفة أمر ربها وطاعة رسولها، فتابوا إلى الله من ذلك وسألوا الله العفو والمغفرة، ليستحقوا نصره..
ثم علموا أن الدعاء من أعظم أسباب النصر فدعوا ربهم وسألوه أن ينصرهم {وانصرنا على القوم الكافرين}.

فكانت العاقبة أن الله تقبل منهم توبتهم، واستجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر على أعدائهم، وسلامة دينهم، وتفضل عليهم بحسن ثواب الآخرة فجمعوا بين خير الدارين.. {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرةۗ والله يحب المحسنين}[آل عمران:148].
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة