الإخبات

0 216

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن سار على دربه واتبع هداه، وبعد:
فإن العباد في سيرهم إلى الله تبارك وتعالى إما أن يكونوا في صعود وعروج وارتقاء، وإما أن يكونوا في نزول وهبوط واستفال.
في الحالة الأولى حين ترتقي النفس في مدارج السالكين إلى رب العالمين فإنها تفوز بانشراح الصدر، وطيب العيش، ومزيد قرب من الله تعالى وأنس به، بما يجل عن الوصف، ويستعصي على البيان، ولا يخطر على البال، ولا يستشعره إلا من ذاقه، كما قال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وقال بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه.
وكان ابن تيمية رحمه الله يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

قال ابن القيم رحمه الله شارحا كلام صاحب المنازل عن‌‌ منزلة الإخبات: (لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع شك، والرجوع الذي هو نوع غفلة وإعراض، والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي سيره إليه ما دام نفسه يصحبه، شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله، فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر، فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع. كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة لسفره وجد في السير).
ولا شك أن الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس ومغالبتها على ترك شهواتها وركونها إلى الراحة والغفلة، والصبر على مشاق الطريق حتى يفوز صاحبها برضوان الله والجنة، يقول ابن القيم رحمه الله: (فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله- عز وجل- وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل. فلا بد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنه ليسير على من يسر الله عليه.
وفي ذلك الجبل أودية، وعقبات، وشوك، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجون. فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان، ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات، تعلقت بهم تلك الموانع. وتشبثت بهم تلك القواطع. وحالت بينهم وبين السير.
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزواعن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه، ويخوفهم منه فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته، وضعف عزيمة السائر ونيته. فيتولد من ذلك: الانقطاع والرجوع. والمعصوم من عصمه الله.
وكلما رقي السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع، وتحذيره وتخويفه. فإذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق، ومشقة عقباتها ويرى طريقا واسعا آمنا يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن.
فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم).

معنى الإخبات:
إذا رجعنا إلى كلام العلماء والمفسرين في بيان معنى الإخبات لوجدناها تدور حول رقة القلب وخشوعه والتواضع والاستسلام لله عز وجل والرضا والخوف منه سبحانه. قال الفراء في قوله تعالى: {وأخبتوا إلى ربهم} (هود/ 23): (أي: تخشعوا لربهم، قال: والعرب تجعل (إلى) في موضع اللام. وفيه خبتة أي تواضع).
قال الثوري- رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
{وبشر المخبتين}(الحج/ 34) قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له.
وبه فسر ابن عباس- رضي الله عنهما- وقتادة لفظ "المخبتين" وقالا: هم المتواضعون.
وقال مجاهد: المخبت المطمئن إلى الله عز وجل. قال: والخبت: المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش:
الخائفون، وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم.

حديث القرآن عن المخبتين:
‌‌من الآيات الواردة في الإخبات قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}(هود: 23). وهي تحمل البشارة للمؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفة بالفوز بالجنة، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسموات، وهم في ذلك خالدون، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، وينامون ولا يتغطون، ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رشح مسك يعرقون).
وقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر المخبتين فقال الله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين.الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}(الحج: 34-35).
كما جعل الله تعالى الإخبات صفة من صفات أهل العلم، ورتب عليها الهداية إلى صراطه المستقيم فقال: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}(الحج: 54). قال ابن كثير رحمه الله: (أي : تخضع وتذل، ( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات).

النبي يدعو ربه أن يرزقه الإخبات:
فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: "رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري".
لما ذكر صاحب المنازل درجات الإخبات وأن أولها: ‌أن ‌تستغرق ‌العصمة ‌الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة. ويستهوي الطلب السلوة.
شرح ابن القيم مقصوده فقال: (المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته، وشهوة تعارض إرادته، فتصده عن مراده، ورجوع عن مراده، وسلوة عنه، فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة، فتستغرق عصمته شهوته، والعصمة هي الحماية والحفظ، و الشهوة الميل إلى مطالب النفس، و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به، يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة؛ فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة، ونزوله أول منازلها، وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم، الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير، وذلك علامة السكينة، وتستدرك إرادته غفلته، والإرادة عند القوم: هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله، و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة، فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها، واستدرك بها فارطها، وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوي في بئر، وهذا علامة المحبة الصادقة؛ أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا. فالحاصل : أن عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبته تقهر سلوته).
ومما لا شك فيه أن الإخبات وهو أول درجات الطمأنينة والثقة بالله وحسن الظن به سبحانه، يورث صاحبه العزة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ويكون سببا في وقيته من الفتنة.
وبالإخبات ترتفع الهمة وتعلو النفس عن الرغبة في المدح أو الخشية من الذم، ويباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المخبتين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة