يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكمْ فيَقول مَنْ خَلقَ اللهَ؟

0 320

الإيمان بالله هو الاعتقاد الجازم بوجوده سبحانه وتعالى، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأنه عز وجل ليس كمثله شيء، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11). والإيمان بالله ووجوده، أمر لا شك ولا جدال فيه عند أصحاب العقول السليمة والفطر السوية، وأما من تعرض للانحراف والانتكاس حتى اقتلعت الفطرة السليمة من قلبه، وأنكر وجود الله عز وجل، فإنه يحتاج إلى البحث والتأمل في داخل نفسه، والنظر في الدلائل الكونية والآيات القرآنية، وسيجد الكثير والكثير من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على وجود الله عز وجل، فكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها. قال ابن تيمية: ''إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة''. وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى، فلأن جميع المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة. وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة، تعين أن يكون لها موجد وخالق وهو الله رب العالمين، قال الله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون}(الطور:37:35). قال ابن كثير: "أي: أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا".

يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق الله؟:
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال بعض الناس يتساءلون ويتشككون في الله عز وجل، ومعهم الشيطان يدفعهم بوساوسه وشبهاته التي يلقيها عليهم حتى يصل به أن يقول لهم: "خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟"، وهذا من التشكيك في الله سبحانه والإيمان به، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدواء النافع والجواب السريع لمن صادف أو وجد في نفسه شيئا من جنس ذلك القول والسؤال، والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله) رواه مسلم.
2 ـ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته).
3 ـ روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله، قال: فإذا قالوا ذلك، فقولوا: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد}(الإخلاص:4:1) ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ من الشيطان).
4 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله) رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وحسنه الألباني وضعفه غيره.
قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (يتساءلون) التساؤل جريان السؤال بين اثنين فصاعدا، ويجوز بين العبد والشيطان، أو النفس، أو إنسان آخر، ويجري بينهما السؤال في كل نوع، حتى يبلغ إلى أن يقال هذا". وفي "فيض الباري على صحيح البخاري": "قوله: (لن يبرح الناس يتساءلون) أي لا يزالون يقيسون المخلوق على مخلوق آخر، حتى يقيسون الخالق أيضا على المخلوق، فيقولون: من خلق الله، وهو باطل، فإن الأمر إذا وصل إلى ما بالذات انتهى". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "(فليستعذ بالله ولينته) أي يترك التفكر في ذلك الخاطر ويستعيذ بالله إذا لم يزل عنه التفكر، والحكمة في ذلك أن العلم باستغناء الله تعالى عن كل ما يوسوسه الشيطان أمر ضروري لا يحتاج للاحتجاج والمناظرة، فإن وقع شيء من ذلك فهو من وسوسة الشيطان وهي غير متناهية، فمهما عورض بحجة يجد مسلكا آخر من المغالطة والاسترسال فيضيع الوقت إن سلم من فتنته، فلا تدبير في دفعه أقوى من الالتجاء إلى الله تعالى بالاستعاذة به كما قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}(الأعراف:200).. (فقولوا: {قل هو الله أحد}: الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما {أحد} فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل، فلو فرض مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق".
وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": "وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله) وفي الرواية الأخرى (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه. قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين، فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه.. فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها". وقال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير": "(إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق السماء) يوسوس له بذلك.. (فيقول: الله) جوابا على الفطرة. (فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله).. (فيقول من خلق الله؟) تدرج من الحق إلى الباطل، وفيه دليل أن من شأن المبطل أن يلبس الحق بالباطل، وأنه يستدرج العبد فيأتيه بما يعرفه ثم يأتيه بما لا يعرفه، ليوقعه في المحارة. (فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله) أي صدقت بأن الله ليس بمخلوق ولا يتصف بصفات المخلوفين، وأنه كما وصف به نفسه ورسوله، آمنت بما جاء به عن الله".

لا تفكروا في ذات الله:

الوساوس الشيطانية والخواطر والأفكار السيئة التي ترد على الإنسان وتصل به إلى التفكير في ذات الله، والتساؤل من خلق الله؟ من الأمور التي تفسد القلب والإيمان، والتمادي في هذه الخواطر قد يؤدي إلى الهلاك. والمؤمن يجب عليه إذا خطرت له هذه الخواطر والوساوس أن يستعيذ بالله تعالى منها ومن الشيطان، وأن يلقي هذه الوساوس والخواطر خلف ظهره ولا يسترسل معها، ومن أراد معرفة ربه وخالقه فعليه أن يعرفه بما عرف به سبحانه نفسه في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وبما خلقه الله عز وجل في هذا الكون الفسيح من الآلاء والآيات الدالة على عظمته وربوبيته وألوهيته سبحانه.. ولا يمكن لمخلوق مهما كان فكره وعقله ـ المحدود ـ أن يدرك حقيقة ذات الخالق سبحانه، ومن ثم فلا ينبغي أن يسترسل المؤمن في التساؤل: من خلق الله؟ ولا ينبغي له كذلك أن يتفكر في ذات الله عز وجل، أو يتخيل شكلا لذات الله سبحانه وتعالى، لأن كل شكل يتخيله العقل أو يخطر بالبال، فإن الله تعالى بخلافه، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11). قال ابن كثير: "{ليس كمثله شيء} لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له". وقال السعدي: "{ليس كمثله شيء} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله". وقال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما}(طه:110)، قال الطبري: "{ولا يحيطون به علما} يقول تعالى: ولا يحيط خلقه به علما. ومعنى الكلام: أنه محيط بعباده علما، ولا يحيط عباده به علما".
ومن أصول العقيدة عند أهل السنة: أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وذات الله عز وجل لا تشبه ذواتنا، وكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه {ليس كمثله شيء}(الشورى:11). قال الإمام الأصبهاني: "الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات وإنما أثبتناها لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف". وقال ابن تيمية: "القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات".
وقد كثرت أقوال أهل العلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل، والحث على التفكر في آياته الكونية المرئية، وآياته المقروءة في كتابه، ونعمه التي تغمر الإنسان وتحيط به، قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في "الرسالة": "لا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون.. يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته". وقال أبو جعفر الطحاوي: "لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام". وقال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس": "ومن ذلك أن الشيطان يأتي إلى العامي فيحمله على التفكر في ذات الله وصفاته فيتشكك، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسألون حتى تقولوا هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فو الله إني لجالس يوما إذ قال رجل من أهل العراق هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فجعلت أصبعي في أذني ثم صحت: صدق رسول الله، الله الواحد، الأحد، الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد".
وفي "أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي: قال نعيم بن حماد ـ وهو من شيوخ الإمام البخاري ـ: "حق على كل مؤمن أن يؤمن بجميع ما وصف الله به نفسه ويترك التفكر في الرب تبارك وتعالى، ويتبع حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق)". وقال الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة": "ومن تفكر في الله وفي صفاته ضل، ومن تفكر في خلق الله وآياته ازداد إيمانا". وقال ابن القيم في "الفوائد": "الفكر في آلاء الله ونعمه، وأمره ونهيه، وطرق العلم به، وبأسمائه وصفاته، من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة. فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها: أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. وكلما فكر في قصر الأمل، وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد، وبذل الوسع في اغتنام الوقت، وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها، بعد موتها وسفولها، وتجعله في واد، والناس في واد. وبإزاء (مقابل) هذه الأفكار: الأفكار الرديئة، التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق، كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه، ولا أعطي الإحاطة به، من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه".

الإيمان بالله سبحانه يتطلب تسليما وانقيادا كاملا لله عز وجل، لأن كثيرا من الأمور الغيبية لا يمكن للعقل أن يدركها، والإيمان بالغيب ركن من أركان الإيمان بالله عز وجل، وربما يتشكك الإنسان وتعتريه بعض الأفكار والتساؤلات والشبه والوساوس السقيمة، وهنا لا بد له أن يرجع سريعا إلى إيمانه بالله عز وجل، وما قاله الله عز وجل عن نفسه سبحانه، أو قاله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوقف عن الاسترسال مع الشيطان ووساوسه، ويدفع هذه الخواطر والوساوس بالإعراض عنها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، وهذا من أعظم أسباب السلامة.. ومن مظاهر فضل ورحمة الله تعالى بأمتنا الإسلامية أن ما حدث المسلم به نفسه من الوساوس والأفكار، من غير إرادة منه، فهذا معفو عنه، ولا يترتب عليه إثم ما دام لم يعمل بجوارحه، أو يتكلم بلسانه، ولم يتأثر قلبه وإيمانه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم) رواه البخاري. قال الشيخ ابن عثيمين: "هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح فرج للأمة في كل ما يرد على قلوبها أو على نفسها من الوساوس والشبهات والشطحات.. وهذا الحديث يريح الإنسان، فما دام الله عز وجل لا يؤاخذ بما حدثت به نفسك من هذه الأمور، فلا يهمك، ولا تركن إليها، ولا تعبأ بها، واطردها عن نفسك، ولا تعتقد أن ما جرى من هذه الوساوس يكون عليك فيه إثم، بل لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك صريح الإيمان)". قال ابن حجر: "(ذاك صريح الإيمان) أي علمكم بقبيح تلك الوساوس (من خلق الله؟)، وامتناع قبولكم ووجودكم النفرة عنها، دليل على خلوص إيمانكم"، وقال الهروي: "(صريح الإيمان) أي: خالصه يعني أنه أمارته الدالة صريحا على رسوخه في قلوبكم، وخلوصها من التشبيه والتعطيل". 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة