مهددات السلم المدني ومعالجاتها في السنة النبوية

0 159


السلم المدني أو المجتمعي من المصطلحات المتداولة في علم الاجتماع، وهو يعني: حالة تسود فيها الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع، لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات، ليكون السلم الاجتماعي حالة من الوفاق تضمن بالدرجة الأولى الكليات الخمس ومكملاتها: المحافظة على الدين، والنفس، والأموال، والأعراض، والعقول. 

والسنة النبوية ثرية في الحفاظ على السلم المدني وفق معايير الوحي العادلة، فقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد ومرتكزات للسلم المدني، وحارب كل ما من شأنه تقويض حالة الانسجام والترابط بين أفراد المجتمع.
 
مهددات السلم المجتمعي:
 
أولا: الجهل
الجهل داء يؤدي إلى كوارث مجتمعية لا حصر لها، وقد يصل في بعض المراحل إلى تهديد الاستقرار المجتمعي، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى نموذج للجهل أهم سمة من سمات الخوارج وهي الجهل بحقائق الإسلام، وأن مشكلتهم تبدأ من قلة الفقه في الدين، والتمسك بظواهر العبادات والشعائر المجردة.
عن أبي سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ (أي في جلد مدبوغ بالقرظ) لم تحصل من ترابها (أي لم تميز ولم تصف من تراب معدنها) قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة، وأما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء" قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: " ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال: " لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم، قال: ثم نظر إليه، وهو مقف فقال: "إنه يخرج من ‌ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
والجهل يتمثل من خلال تأويل النصوص تأويلات يتولد منها الغلو الذي يهدد السلم المجتمعي، ففي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هلاك أمتي في الكتاب واللبن ". قالوا: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: " ‌يتعلمون ‌القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع ويبدون ".
 
ثانيا: التعصب الفكري
التعصب الفكري شعور داخلي يجعل المتعصب يضيق بالمخالف له في الرأي، وربما يتعامل مع الآخرين بشكل عدواني، وهذا قد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود عن ‌جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من دعا إلى ‌عصبية، وليس منا من قاتل على ‌عصبية، وليس منا من مات على ‌عصبية.
وهذا التحذير من التعصب لأنه يهدد الأمن المجتمعي، فهو يقطع العلاقات، ويمزق الصلات، ويجعل الناس متخندقين وراء ما يتعصبون له من الأفكار أو الأحزاب أو غيرها من العصبيات الجاهلية.
وهناك مخاطر كثيرة تؤدي دور التهديد للسلم المدني، لا تقل خطورة عما سبق، منها نشر الشائعات والأراجيف، الفقر والتخلف، وغيرها.
 
معالجات السنة لتهديدات الأمن الاجتماعي:

أولا: معالجة الجهل بالحوار والإقناع
إذا عدنا إلى السنة النبوية وجدنا علاج الجهل بالحوار والإقناع، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرسل حبر الأمة سيدنا عبد الله ابن عباس يحاور الخوارج -وكانوا زهاء ثمانية آلاف -في الشبهات التي كفروا لأجلها سواد المسلمين، فرجع بعد مناظرته إياهم أربعة آلاف خارجي إلى جادة الصواب.
 
ثانيا: علاج نشر الشائعات
الوحي واضح في التحذير من نشر الإشاعات والأراجيف التي تفت في عضد المجتمع، وتزلزل الثقة بين أفراده، عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها،... وفيه أن مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة قال له (أي للنبي): إن الحارث منعني الزكاة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث مستخبرا فقال الحارث: لا والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي ". فنزلت الآية: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات: 6-8.
 
ثالثا: معالجة الغلو والتعصب والافتراق بين المسلمين
عالجت السنة النبوية الغلو بمنهج التوسط والاعتدال في كل شؤون الدين والدنيا، دون إفراط ولا تفريط، فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون، قالها ثلاثا"، والمتنطعون هم: المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد.
ووجهت السنة النبوية بسلوك منهج التيسير، وتقبل ثقافة الاختلاف، لأنها فطرة ربانية، أرادها الله، فعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن، فقال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
وقد جاء في السنة النبوية ما يدعو إلى نبذ أعباء الجاهلية وأمراضها العصبية، حتى يهنئوا بالأمن والسلام، فعن أبي هريرة أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب" رواه أبو داود.
 
رابعا: معالجة الفقر والبطالة
لما كان الفقر والبطالة أحد مشاكل المجتمعات التي تؤدي إلى ظهور بعض السلوكيات المنافية للسلم المجتمعي، كالسرقة، والرشوة، والحسد، فقد عالج الإسلام ذلك من خلال منظومة التكافل الاجتماعي، ففرض على المسلمين أن يحمل بعضهم بعضا، وذلك بأن يخرج الأغنياء زكاة أموالهم على فقراء المجتمع، ومن خلال الصدقات، والكفارات، مما يعزز التراحم والتلاحم بين أفراد المجتمع، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن له فضل من زاد، فليعد به على من زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل".
 
خامسا: معالجة الظلم والاستبداد
لتحقيق السلم المدني بين أفراد المجتمع عالجت السنة النبوية أحد أهم التهديدات التي تؤثر على ترابط المجتمع وهو الظلم والاستبداد السياسي، من خلال الأمر بالعدل والمساواة بين الرعية، فقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ العدالة في المجتمع، وتطبيق أحكام الإسلام على الجميع بالسوية، ولو تعلق الأمر بفلذة كبده فاطمة رضي الله عنها، فقد ثبت في الحديث الصحيح: "إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها" رواه البخاري.
 
هذه بعض معالم الحفاظ على السلم المدني والانسجام المجتمعي في السنة النبوية، فهي قضية محورية في الإسلام بشكل عام، وفي السنة النبوية بشكل خاص، لأنها تقدم أسسا لمعالجات شاملة في هذا الشأن، في حين تفتقد بعض النظم هذه الميزة، حيث تقدم معالجات هامشية مجتزأة، مما يجعلها غير فاعلة في الواقع.
  

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة